الحلقة الأخيرة : صور من أبها خير من ألف ألف حرف

الحلقة الأخيرة

 

اليوم الأخير كان عبارة عن رحلة مطولة لأماكن شهيرة لأبها البهية , فإن كنتم باشتياق لتتعرفوا أين كانت الجولة فاستعدوا لنعبر كيلوات عدة , و نعيش مناطق متفاوتة , و نتعرف على مناشط متباينة .

 

 نهاية الرحلة كانت مشابهة للبداية ,حيث بدأت رحلتي هذا اليوم  من على السفرة . حيث تفوح رائحة الفول و تنتشر في الشقة , و تعقبها رائحة الخبز الفواحة فتزكم الأنوف فيجبر الجميع أن تمتد أياديهم إلى الأطباق .

 

 فكما بدأنا الرحلة في أول حلقة من مائدة الإفطار فنحن اليوم نختمها من مائدة الإفطار . فحيا هلاً بكم في رحلتنا في ربوع أبها …

البداية من منطقة الحبلة  و هي منطقة تقع في أطراف مناطقة أبها , و قد كانت منذ سنوات قريبة تعتبر منطقة معزولة عن العالم , و هي قرية من القرى النائية تقبع تحت جبال عالية . حيث ينزل أهل تلك البلدة إلى بلدتهم بوسيلة وحيدة , و هي حبال ممتدة من سفوح الجبال إلى قيعانها . حيث تتواجد قريتهم التي عشقوها  , و استحملوا الصعاب من أجلها , كانت عيشتهم التي اختاروها مناسبة لهم حيث يتسلقون الجبل في أول النهار ثم يجلبون حاجتهم و يعودون قبل الظلام . فلم يفكروا أن يغيروا من طريقتهم , أو يبدلوا عيشتهم . حيث تنتشر بيوت القرية تحت أغصان الأشجار , و يمر بتلك البلدة أودية تستسقي من الجبال المجاورة , و تحيط بهم مزارعهم الصغيرة التي توفر لهم الكثير من متطلبات الحياة . لذا فهم لا يصعدون الجبال العالية إلى للضرورة القصوى , أو لتوفير حاجات لم يستطيعوا أن يستخلصوها من بيئتهم . استمر وضعهم على هذا الحال سنوات عدة . حتى امتدت لهم يد الحضارة , و انتشلتهم من بقعتهم تلك  , و أسكنتهم في أواسط المدن المحيطة . انتقلنا من أبها إلى الحبلة عبر طريق يجذبني و بشدة , و هو طريق الواديين , حيث يعجبني بتعرجاته و جميل بيوته . و لم يخلوا الطريق من مناظر المزارع المدرجة , و بعض القرى الصغيرة الرائعة , و الكثير من المساكن القديمة .

أيضاً لعل القردة كانت حاضرة في تلك المنطقة , فهذا موسمها الذي تنتظره , فهي تريد أن تستمتع بالموسم السياحي على طريقتها الخاصة , فمنها الاستعراض ومن الناس الأكل و الطعام .

وقفنا برهة من الوقت و كلي حذر من شقاوة تلك القردة , فإن تطعمها مرة فلن ينتهي الأمر …بل تريد منك أن تستمر , و إن انتهى الطعام فالويل لك ثم الويل . فلن تتركك بحالك  , و سوف تقذفك بالحجارة , فيتحول المرح إلى حزن و غم . ابتعدت عن القردة و تابعت الناس و هم يطعمونها بأنواع الأطعمة …ثم بعد قليل و إذ بالقردة تصعد الجبل و تستمتع بالأكل و تترك البشر .

 

ولعل الباعة الذين ينتشرون على أطراف الطريق من أكثر الناس فائدة من وجود القردة ,فالناس تشتري الموز و تنفقه بلا هوادة على تلك القردة .

منظر الفاكهة المعروضة يغريك أن تتقدم خطوة لتنال سلة من الفواكه المشكلة , عرضهم للفواكه ينم عن ذوق رفيع ودراية كافية بكيفية جذب الزبون , فهم يعلمون أن العين تعشق كل جميل . 

 

 خرجت من ذلك المكان , و اتجهت إلى طريقي الموصل إلى الحبلة . وصلت هناك و كانت الشمس محرقة , و ذلك ليس بمستغرب فعلوا الجبال  , و ارتفاعها جعلها بمقربة إلى قرص الشمس , مما نتج عنه هذه المناخ الحار  , مع عدم وجود السحب  , و توقف النسمات التي تنعش البدن .

 

 كان لابد أن ننتقل إلى المطل , و لكن كل شيء بثمن , فدخول العربات برسوم معروفة , حيث تجد بالداخل جلسات مشرفة على بلدة الحبلة القديمة , و هذه الجلسات للأسف لا تفي باحتياجات جميع الزوار , و لا أعلم عن جمالها أو نظافتها , و لكن مظهرها يبشر بالخير, و أيضا توجد بالمنطقة المحيطة محلات مختلفة . هذه المحلات رغم فائدتها لزائري الحبلة  , و لكن طريقة عرض السلع تبدو بشكل لا يهتم بالزبائن أو العرض المثالي  . فلم تعرض بطرق العرض الحديثة , فأكوام من الملابس  , أو البضائع على رفوف  , أو طاولات المحل تبدو مبعثرة . و قلة التنظيم هي سمة من سمات تلك المحلات , مع وجود عامل قد أهمل محله  , و أخذ ينظر يمينٍ و شمالاً  , فكأنه يبحث عن شيء قد فقده  ,  كل ذلك يجعل الناس تصد عنه . و تستغني عن خدماتهم المتهالكة . و رغم بعض العذر لهم بأن وقتهم موسمي  , و فتح مثل هذه المحلات يتم في وقت محدد  , و بخطوات سريعة , و لكن أعتقد أن العبث بنظرة السياح و عدم مراعاة شعورهم و ذوقهم تجعل المرء يعيد التفكير بالسياحة المحلية أكثر من مرة .

 

 في مكان آخر يجلس عامل ينتظر الأطفال أن يقدموا له قسيمة الألعاب , فينهض متثاقلاً لتشغيل اللعبة , يدير المحرك ثم يرجع ببطء إلى مكانه  , و كأن عقارب الزمن متوقفة رغم أن اللعبة متسارعة . لم يقطعه هذا المشوار , أو هذا العمل على أن يكمل حديثه مع صاحبه , فيرفع صوته لزميله الذي يجلس بالمحلات ليتمم مناقشة بعض أموره . جرس انتهاء الوقت المحدد ينبه العامل أن هناك أطفال يحسن به أن يفتح لهم باب الخروج , و أطفال أخرى قد حان وقتهم , و ينهض متثاقلاً ثم يذهب و الملل ظاهر من حركته . فيفتح الباب و ينظر إلى أطفال أخر قد حكم عليهم أن يدخلوا هذا القفص . فيبدأ دوران المحرك الخاص باللعبة بسرعة و كأنه أيضاً يريد أن ينهي الوقت بسرعة و يعود للركون مثل صاحبه العامل المهموم .

عندما تطل على مع جبال الحبلة , تجد أناس يهبطون عبر العربات المعلقة من سفوح الجبال إلى قيعانها , حيث توجد قرية شعبية في تلك المنطقة , و ستشاهد الناس و هم يتجولون عبر غاباتها الصغيرة , فيخرج من بين الأغصان رجال , ثم يتبعهم أطفال .

 

 و عندما تمر ببصرك من تحت تلك الأشجار تجد عائلة قد استظلوا بظلها . و قد جلبوا جميع حاجياتهم معهم , إما أغراض طبخهم , أو بعض المشروبات الحارة التي تزيد من حرارتهم , أو الباردة التي تنشطهم و لكن في كلا الحالتين فإنها تؤنس جلستهم .

 

 أما في أماكن أخرى إما تحت الجبل , أو في منتصفه , تجد مجموعة من الشباب قد عزموا أن يعيدوا تجربة الآباء و الأجداد  , و ذلك بتسلق الجبل على طريقة أهل الحبلة , فقد ربطوا حبالهم في منتصف أجسامهم , ثم بدأ أكثرهم جرأة على المحاولة …

 

 بعد لحظات تجد أن الذين عزموا على أكمال كل المرحلة من التسلق هم قلة . أما الأغلبية فقد آثروا النجاة و السلامة  , فهل هناك أفضل من السلامة . هؤلاء الشباب , يدفعهم حب المغامرة , أو حب التجربة , أو الاستعراض .

 

 

 و كل ذلك ليس بمستقبح أو أنه منبوذ إنما أمر محمود . و لكن الاعتراض أن تكون تلك المغامرة بدون استخدام وسائل السلامة لتسلق الجبال العالية .

 

 فيظهر لي عبر منظار الكاميرا أن الجبال قد وضع عليه سلالم تساعد من يحب أن يمارس تلك الهواية , و لكن أخوتنا هداهم الله , يتسلقونها بثيابهم , و كأنهم في وليمة فرح , أو كأن العمر يكرر مع كل محاولة …

 

 و لا يعلمون أن ليس كل مر تسلم الجرة  , إنهم يخاطرون بحياتهم  , و الخطر يحف بهم , بل يمشون على أطراف الجبال  , و على جانب الهاوية  , و بممرات ضيقة و على رؤوس أصابعهم …

 

 وليس ذلك فحسب بل تجد أنهم يعبثون على بعضهم و هم بهذا المكان العالي . ثم يتبعون كل ذلك قهقهات و أصوات نشاز يتأذى منها كل من في ذلك المكان .

 

 إنني و أنا أنظر إليهم أتساءل كم هي فجيعة أمهم بهم لو رأتهم في هذا المنظر , فكيف لها أن تتلقى خبر إصابتهم بسوء لو قدر الله لهم ذلك . كم أتمنى دائماً أن نهتم بمن ينبض قلبه لنا , إذا كنا لا نهتم بأنفسنا  , و لا تهمنا أعمارنا .

 

 ليس كل هذا حال الشباب , بل بعضهم يمارسها على أصولها . فتجدهم قد لبسوا اللبس المناسب , و أخذوا المواقع المناسبة للتسلق  , و بدؤوا بممارسة هوايتهم , فهؤلاء نقول : أهلاً و سهلاً و مرحباً .

  خرجنا من المطل , و ذهبنا إلى الأرض الممتدة قبل الجبل . حيث هناك مخيمات الشباب . جاؤوا من كل فج عميق , و نصبوا خيامهم , و تفننوا بوضع مخيماتهم . بينهم تنافس في كل شيء .

 

و لكن الذي لفت نظري أن لهم في السيارات شأن و عمل . حيث عزم أهل أغلب المخيمات هناك . أن يوقفوا سياراتهم على الحجارة , و أن يتفننوا برص الحجارة على إطاراتها .

 

 فكلٌ و الميول التي ينتمي إليها , أو الهوايات التي يعشقها . فبعضهم يضع الحجر بلون نادية المفضل , و بعضهم يكتب على سيارته بالحجارة اسم منطقته و بلدته . و بعضهم يضع رموز قبيلته .

 

 و لكن هم بشغل دائم . و عمل مستمر . و كل رضاهم أن تبتسم عندما تراهم . أو تستأذن لتصور أعمالهم . أو يشد الأعجاب أعمالهم . و كل ذلك لهم و نسأل الله أن يصلحهم و أن يسددهم و يهديهم .

في مكان قريب نصبت خيام ممتدة حيث . يوجد مجموعة من الشباب قد وضعوا صناديق زجاجية , و وضعوا فيها ثعابين مختلفة هي حصيلتهم لشهور عدة . الزيارة بخمسة ريالات , و تشمل الفرجة على الثعابين التي قد أهلكها كثرة الزوار و التصوير معها . فهي بمرحلة قبل الموت فقد تعاقب البرد و حر الشمس الذي نال منها .

 

 فتجد الثعابين بعضها يسحب نفسه سحباً ليرضي زائراً قد دفع مبلغاً . أو تجده تفتح فاها ليندهش منها من قد عنا إليها و من بعيد قد أتاها . لم أرحم ثعابين مثل تلك الثعابين .

 

 قال ابني : أبي أريد أن أمسكها بيدي . فقلت خيراً لك أن تمسك حبل الغسيل من أن تمسك هذه الثعابين . فهي كالبلاستيكية أو أشد جماداً منها . أمسكها و صور معها , و هي تتمنى أن تلحق بأخواتها التي سبقنها بلفظ أنفاسهن الأخيرة .

 

بعد هذه الإطلالة , كان لابد أن نتجه إلى مكان آخر , فأين نذهب …فكما تعلمون أن اليوم هو اليوم الأخير من الرحلة , فلابد أن يكون لنا زيارة للسودة , فنودعها و نستمتع بلحظات في أعالي جبالها , فمن أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال كان اتجاهنا . تركنا الحبلة خلفنا  , و مررنا بمنتزه الأمير سلطان , و القرعاء …

 

 و شققنا أبها , ثم أخذنا الجبل المحبب إلى نفسي  و الذي يرميني إلى حيث الهوى رماني . حيث جبال السودة . إن أكثر ما يميز السودة أنها تخبأ لك مفاجأة سارة بالتأكيد , و لكن ماهي ؟ هل هي سحب و غيوم , أم شمس و ظل و نسيم , أم أمطار و قطرات . لا تفكر كثيراً بماذا ستكون المفاجأة فكل أمر تتصوره بيد الخالق سهل و يسير .

 

 كان المخطط أن سيكون الغداء تحت شجرة من أشجار السودة , أما أن نستظل بظلها عن أشعة الشمس الدافئة , أو أن نحتمي بأوراقها عن قطرات المطر الهاطلة . يساعدنا في ذلك أن الوجبة قد أعدت من قبل , فكل الذي علينا أن نختار مكاننا  , و أن ننعم برائحة القهوة و هي تنشر رائحتها في جبال السودة , لكن عندما أقبلنا على السودة . كانت المفاجأة هذا اليوم من النوع الثقيل , فالسحب السوداء تغطي الأفق , و السماء بالأرض تكاد أن تلتصق, و بدأت حركة الناس تزداد و تضطرب .

 

فالطقس يخبر بأمر قد يطرأ و يستجد . الناس قد ضاقت بهم الطرقات  , و قد غادروا أماكنهم من تحت الأشجار و الخيام , و أخذوا الحيطة و الحذر  , و ضلوا يشاهدون الحدث  , و يترقبون النتيجة من خلال نوافذ سياراتهم . و أحسنهم حالاً من ذهب إلى المطاعم المنتشرة  , و استأجر كبينة  , و بدأ يراقب الوضع من خلال زجاج كبينته . الرعد صوته يتقدم , و الكون يتحول إلى عالم مظلم , فكأنك في ليل بهيم . و كل حين تشاهد خطوط البرق تمتد من السماء حتى تلامس الأرض . بضوئها الكثيب و تعرجاتها المهولة . أما أنا و أسرتي فقد اخترت شجرة  , فأوقفت السيارة تحت أغصانها  , رغم علمي بخطورة هذا الموقف في أوقات البرق و الرعد , و لكن خوفي من العواصف  , و ما تحمل هو الذي حملني على هذا الأمر , و حصل ماتوقعت فقد هطلت السماء بماء منهمر , و ألقت السحب بأمر ربها مافي بطنها من المطر و البرد . حيث بدأت زخات البرد تضرب الأرض و الأشجار . حتى تهلهلت أوراقها , وغدت الأرض تحت الشجر خضراء من الأغصان و الورق , و البعيدة عنها بيضاء من البرد . صوت البرد و هو يضرب سقف سيارتي و بتسارع مهول يجعل الخوف يدب في قلوب الصغار و الكبار . لأملك أما هذا القضاء و القدر إلا أن أدعو الله بسرعة الفرج . أضع يدي على زجاجة سيارتي الأمامية  , و كلي خشية أن تتفتت بين يدي بفعل الضربات القوية من بلورات البرد و التي رأيتها تزداد حجماً و ترميها الرياح بقوة على جوانب السيارة . أيقنت أن البرد قد أصاب السيارة بأضرار بليغة , و أنني سوف أذهب بها إلى مكتب  التأجير و أدفع تكاليف مضاعفة , فلما هدأت العاصفة , خرجت من سيارتي المستأجرة لأطمئن عليها , فوجدت فضل الله واسع فقد كانت الأغصان تخفف سقوط البرد على السيارة قبل أن تصل إليها . تنفس المتنزهين الصعداء بعد أن توقف هطول البرد , و استمر المطر فقط .

 

 

 خرجوا من بين الأشجار , و أخذ يلملمون بقايا أغراض رحلتهم . و ما بعثرته الرياح من بعدهم . أما الأطفال و الصغار فقد أعجبهم أن تحولت أرض السودة إلى قطعة بيضاء في فصل الصيف و ليس الشتاء , فأخذوا يتقاذفون بكرات البرد المتبقية …

 و بعد وقت يسير خرجت أشعة شمس عسير لتذيب المتبقي من البساط الأبيض , و تحاول أن تمسح بقع من الماء المتساقط . تذوب قطع البرد فتكون جداول صغيرة تمر بين الأشجار  , و ثم تختفي من بين أغصانها  , و أعشابها  , و أحجارها . علم الناس أن الأرض لم تعد تناسبهم لقضاء بقية اليوم . فرطوبة الأرض , و خشيتهم من تكرر الحدث , و خوفهم على أطفالهم من موجة البرد التي هبت . لذا فقد خرجوا من السودة زرافات و وحداناً ليبحثوا عن مناطق أقل ضرراً و ارتفاعاً  ,  أو لم تصبها سحابة السودة الصيفية فلم يكن للماء في أرضها بقية . اكتظت الشوارع بالسيارت نزولاً إلى إتجاه أبها …

 

 و كانت سيارتي من بين السيارات الهاربة من تلك الأرض الغارقة . و لقد كان يوماً مشهود بالبرد و العواصف , حتى  أن أحد الأشخاص ممن أعرفهم باسمه و أذاعت الصحف خبره توفي أثناء العاصفة الرعدية و هو يتلقى مكالمة هاتفية من على أرض السودة  , بينما كانت عائلته بمرافقته – فرحمه الله تعالى – و أيضاً من الأحداث أن توقفت العربات المعلقة بعائلة لمدة خمس و أربعون دقيقة و هي معلقة بين السماء و الأرض , فنسأل الله اللطف بنا و الرحمة . و على أخوتنا المغفرة . خرجت من السودة حتى ابتعدت عن جبالها العالية .و وصلت إلى منطقة أقل سحباً , و ابعد عن المرتفعات العالية  ,  انعطفت ذات اليمين , و ذلك لأتناول وجبة الغداء المنتظرة , اخترت جبل مطل على قرية .

 

 هذا الجبل يردد من بين جباله أصوات الرعاة و ثغاء غنمهم , بل يكبر أصوات بيوت أهل القرية و أطفالهم , فكأن الجبال أخذت على عاتقها بترديد مقالهم . فتنشر الود بينهم و تنقل لبعضهم سرورهم و فرحهم و أخبارهم . هدأ أطفالي – أيضاً الكبار – بعد هذه العاصفة , و اخترنا مكاناً علياً لتناول الوجبة , فسبحان الله فتلك الأرض لم تصبها قطرة .

 

 فتحنا الحافظات فانتشرت رائحة الكبسة التي أعدت بصورة رائعة , أو أن الجوع قد عمل عمله فأصبح بنظري بهذه الصورة – ليه مستخسر أن تثني على طبخ الريحانة …صحيح رجال مالكم أمان – بعدما وضعنا سفرة الأكل  , و نوعنا فيها المشارب و المآكل و لله الحمد , خرجت علينا من بين الجبال البعيدة سحابة سوداء مظلمة , فبدت أشد من أختها التي سبقتها .

 

 بل يسبقها صوت الرعد و زمجرته , فسبحان من سبح الرعد بحمده و الملائكة من خيفته . لما نظر أبنائي و زوجتي و أيضاً أبيهم لهذا القادم من بعيد طلبنا من الله الحفظ و العون , و أن يجعلها سقيا رحمة لا غرق  , و لا عذاب  , و أن يجعلها في بطون الأودية و الشعاب .

 

أراد الله سبحانه و تعالى أن يسوق هذه السحاب بسرعة عجيبة عبر رياح هبة من جهتها . بل لم يتوقف الأمر على ذلك بل من خلف جبل آخر خرجت سحب أخرى بيضاء ثم تبعتها رمادية ثم سوداء . فأظلمت الدنيا من حولنا .

 

 و سكتت أصوات أهل القرية التي بقربنا , و أخذ الراعاة يطردون غنمهم باتجاه محلاتهم . فلا تسمع إلا صوت الرعد من بين الجبال يدوي , و الأغنام بسرعة تهرب . أنهينا الغداء بسرعة قياسية . و بالحلق غصة , و بين الأيدي بقية من الأطعمة .

 

 فنفضنا أغرضنا بسرعة , و ركبنا سيارتنا لنحاول أن نهرب من عالي الجبل الذي هو بالتأكيد معرض للصواعق و البرق بصورة أكثر .

 

 و عندما وضعنا أرجلنا بسيارتنا و إذ السماء تنقسم ببرق يكاد أن يخطف الأبصار …ثم ثواني فيتبعه صوت صواعق تكاد أن تذهب بالعقل و السمع . رحماك ربي خلقتنا من ضعف و أوكلنا أمرنا إليك بقوتك و عزتك . أحس بصوت الصواعق يهز سيارتي  , و نور البرق يأتي من كل مكان . لم أخشى شيء سوى أن يصيب الهلع أطفالي و أمهم التي لم يروا مثل هذا من قبل . و أصدقكم القول لم أره حتى في أكثر البلدان الأوربية عرضة للصواعق و الرعود . و لقد مر بنا في ألمانيا عواصف موسمية و لكن لم تكن بمثل هذا الذي رأيت . لم يكن يسكن الطرقات سوى سيارتي التي تنزلق و بسرعة لتهبط إلى قاع الوادي , و لتتعدى المرتفعات العالية , و تهبط إلى منطقة أكثر أمناً , أيضاً خشيت إن لم أخرج من هذه المنطقة و بسرعة أن تحتجزني الأمطار عبر أماكن أخرى مررت بها و هي ليست معبدة . لم يدم الوضع كثيراً , فقد كانت سحابة صيف مرت على تلك الجبال و أروتها ثم غادرتها .

 

 كانت محتاجاً أن أودع أبها بصورة أفضل حالة القلق التي أصابتا , لذا بحثت عن جلسة رائقة تنفض عني غبار التنقل و الترحال الذي طاردني شبحه منذ الصباح الباكر .

 

 دخلت إلى قرية صغيرة . فبحثتن عن مزرعة لأستظل بظل شجره . وجدت مكاناً مناسباً في احد مدرجات المزارع القريبة من الجبال . و هذا المدرج يطل على طريق أبها – السودة .

 

 كان علي أن أحمل أغراضي و خيمتي و القهوة و شاي . ثم مددت فرشتي تحت تلك الشجرة , و أخذت أرقب المزارع من حولي .

 

 و بعض العاملين بها من أهل تلك القرية . حيث يجدون بطلب قوت يومهم , و التزود مما تحمله مزارعهم من زرعهم . فواكه  , و خضروات ,  أو حبوب متنوعات . تنظر إلى المزارع و هو يتفقد كل شجرة . فينظر إلى مزرعته قطعة قطعة .

 و ثم ينطلق إلى أحواضها و ينظر إلى الماء و إلى أين وصل , و العامل ماذا عمل . و الثمار أيها استوى و نضج . و الطيور و الحيوانات هل نظفت حظائرها و أعد أكلها . عمل دؤوب و سعي مستمر .

 

 علاقة دائمة بين الخالق و المخلوق . فأرباب المزارع هم من أقرب أصحاب المهن إلى الله . فهم يتعاملون مع خلق الله مباشرة . فهذه الزروع تشق الأرض و تنبت من بين الجبال و تخرج بميعاد .

 

 و هذه الأوراق تخرج من الأغصان رطبة ندية تخضر فترة ثم تصفر فتسقط . و هذه الزهور تتكون من بين التويج و الكأس فتكون أطرافها . و هذه الثمار تخرج من أكمامها . و هذا الثمر ينضج بوقته و يقطف بموسمه .

 

و هذا الزرع يزرع في حينه و ينبت بموعده . و هذا العشب يخرج بدون بذر , و هذا الزهر ينشر عطره بدون أمر .

 

 و هذه الأرض تصلح لنوع معين من الزرع و لا تصلح لغيره مما ينبت في الأرض . و هذه القطعة من المزرعة تصاب بخير و بجانبها قطعة أرض تصاب بمرض .

 

 و هذه الحديقة تغاث و غيرها فوقها الغمام و بجدب تصاب . حكم الإله تجعل المزارع دائم في تفكر و تأمل . و تجعله مربوط بخالقه أبد الدهر . أما أرباب المهن و الحرف فهم يتعاملون مع آلات عملت بأيدي البشر فتجده دائماً يبحث عن صانعها ليعالجها , أو مخترعها لينظر حلاً في مشكلتها . و عندما توافق مزاجه و تعمل بصورة مرضية له يقول : بارك الله بمن صنعها فنعم المصنوعة هي و نعم الصانع هو . و عندما تمل نفسه منها إما بعطل أو ملل . فيسلط على صانعها أقسى الكلمات و أشد العبارات . فتلاحظ أنه يتعامل مع بشر مثله فهو بمنزلة أقل من منزل المزارع المعتمد المتأمل المتوكل المناجي لربه .

 

 بسطت بساطي , و أعددت قهوتي التي توافق مزاجي . و ذهب أطفالي لممارسة هواية استجدت في أذهانهم و هي تسلق الجبال الوعرة بحجارتها المرتفعة .

 

 حيث تذهب أبنتي الكبرى مختفية عنهم حتى لا تمل من متابعتهم . ثم يتبعونها واحداً واحداً . لينظر ماذا يخبأ الجبل لهم . و عندما يجتمعون فوق سطحه .

 

تبدءوا أصواتهم لنا . إننا نراكم بصورة مصغرة . نحن نرى القرية كاملة بغنمها , و حقولها , و سياراته التي تدب على أرضها . و هكذا يدهشهم المنظر عن كل أمر آخر . بينما الريحانة تعد , و تطهو , و تمارس أهم برامجها الرحلاتية ..

 

أذهب أنا و أنظر إلى الأرض بماذا تزهو . فأتفحص زهورها , و أشم عبيرها , و تستهويني نسماتها .

 

 أتنقل من مدرج إلى مدرج و كل مدرج فكأنما خصص لنوع معين من الزرع أو الزهر . و كل مدرج قد تبقى به بعض آثار القطر . و كل مدرج يتسابق على أخوته بأن منظره هو المنظر الذي يسر .

 

 نبتعد و نقترب . نجتمع و نفترق . نصعد و نهبط . و نتحدث و نضحك . نصوت و نهمس . ننادي و نحادي . و كل في أمرنا إلى سرور

نسمر ونتجاذب أطراف الحديث , نأكل و نشرب , تمطر وتشرق , تهب نسمات ثم تعصف بهبوب عاليات , يخفت كل صوت ويرتفع كل همس . ويبقى صوت الطبيعة ولحنه الجميل يغني بأحلى لحن , حتى أن الأغنام و الماشية تكاد أن تتراقص مختالة بجمال منطقتها ,وجميل طبيعتها وحسن جوها . 

 و الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء المرسلين ,و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ,و سبحانك اللهم و بحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك و أتوب إليك  . ونلقاكم بإذن الله تعالى في حلقات جديدة عن رحلتي إلى إيرلندا

محبكم / نسيم نجد

www.naseemnajd.com

روابط بقية الحلقات :

الحلقة الأولى

الحلقة الثانية

الحلقة الثالثة

الحلقة الرابعة

الحلقة الخامسة

الحلقة السادسة

الحلقة الأخيرة

عن سليمان الصقير

محب للسفر والترحال : مؤلفاتي : 1- 800 خطوة لرحلة سياحية ممتعة 2- 150 طريقة ليصل برك بأمك 3- أمي أنتِ جنتي 4- بنيتي لكِ حبي 5- مذكرات مدمن إنترنت

شاهد أيضاً

الحلقة قبل الأخيرة : جولة فوق جبال أبها و مطل السد و مداعبة القردة

مساء الخير عدت إليكم بوجه صبوح     عفواً قد يكون بدء الموضوع بمثل هذه …

5 تعليقات

  1. تقرير رائع جدا و كل صورة من التقرير احلى من الي قبلها

    اتمنى لو ازور ابها

  2. استمتعت جدا بالموضوع. يعطيك الف عافية.

  3. مرحباً بالقائد : رشيد
    و حياك الله أخي في زوايا موضوعي
    و حياك الله تحت ظل أشجار أبها البهية
    كان لنا شرف مرورك
    فلا حرمك الله الأجر و المثوبة على جميل أعمالك للمدونين
    تحياتي لك

  4. أخي الحبيب : max-x
    زرتنا فسعدنا
    نثرت الحروف ففزنا
    اتمنى لك أن تزور أبها في أقرب وقت
    تحياتي لك

  5. وسام ابها

    الله يعطيك العافيه وحياك الله ضيف لدينا في الاعوام القادمة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.