يوميات مسافر ( 1 )

يوميات مسافر
الحلقة الأولى : رحلتي إلى بلاد السند و الهند

كل الذي أذكره خليط متنوع من أصوات أنثوية ناعمة تصدح عبر سماعات المطار الداخلية بعضها يعلن هبوط طائرة و البعض الآخر يعلن إقلاعها . كل الذي أذكره أقدام مسافرين و عرباتهم تمر من أمام عيني بعضهم يتململ الخطوات و بعضهم يريد أن يلحق بالطائرة قبل الفوات . كل الذي أذكره بعدما ركبت الطائرة فتاة عربية في الكرسي الذي خلفي تتكلم بلغة فرنسية ثم تقهقه بصوت عالي . كل الذي أذكره همسات المضيف لتلك الفتاة و يخبرها بأنه في خدمتها تحت السماء و فوق الأرض , كل الذي أذكره أنه كانت بين يدي رواية و مرت المضيفة و أبدت إعجابها بتلك الرواية . و من بعدها نسيت كل شيء و رسخ في ذهني شيئاً واحداً , أن تلك الخطوط هي مجمع من المضيفين و المضيفات من المشاكسين و المشاكسات , فهم برتبة ” مغازلجية ” في فضاء الحياة و لكن يلبسون أزياء راقية و يمارسونها بمهنية عالية . هذا الذي أذكره في بداية رحلتي إلى إسلام أباد ,ثم نزل ستار النوم على أجفاني , حتى حانت ساعة الصفر , و أقترب الهبوط . فشعرت ببرق يخطف الأبصار يطل مع نافذة الطائرة التي ملأها الظلام عندما اخترقنا السحب في استعداد للهبوط في أرضية المطار . نزلت من الطائرة فوجدت أرضاً مبللة, و سماء تستقبل زائريها بقطرات أخيرة من سحابة صيفية عابرة , و طائرات تتغامز بلمباتها البراقة , فأعتقدت أيضاً أن للطائرات نفس حال الشباب و الشابات من المضيفات . فالطائرات قد تواعدن على أجل معلوم . نزلت إلى مطار إسلام اباد في رحلة جديدة لم أكن متحمساً لها , و لكن كنت متشوقاً أن أنهيها و بسرعة , و أن أنهي مهمتي العملية و بالوقت الذي حددته . دخلت المطار فوجدت جموع من الباكستانيين قد دخلوا الصالة و أخذوا بإستقبال المسافرين من القادمين . و وسط العناق , و القبلات برزت بملابسي المميزة بالرغم أنني قد اخترتها بعناية بأن تكون من الملابس الرديئة و ذلك حتى لا ألفت الانتباه , و قد قمت بتلك الاحتياطات بعد التحذيرات التي تلقيتها من الأخوة الذين كان لهم سابق تجربة إلى تلك الدولة . بالقرب من خط سير العفش رفعت جسمي على أطراف أصابعي , و زدت على ذلك أن مددت رقبتي , و كل ذلك من أجل أن أنظر إلى…للحديث بقية



الحلقة الثانية : رحلتي إلى بلاد السند و الهند
بالقرب من خط سير العفش رفعت جسمي على أطراف أصابعي , و زدت على ذلك أن مددت رقبتي , و كل ذلك من أجل أن أنظر إلى عفشي هل وصل ؟! أما لا ؟! و لكن كل محاولاتي باءت بالفشل فأجرامهم أكبر , و أغراضهم أعظم . فلقد كانت أغراضهم التي يستقبلونها تغطي على حقيبتي الصغيرة , و التي من المؤكد أنها ترزح تحت ثقل كرتون من كراتين العاملين بالخليج . كنت أترقب الفرصة بأن أستطيع أن ألمح حقيبتي فأهرب من هذا الجو الخانق , و الذي زادته المراوح الجدارية بما تنفثه من هواء سام , فصار خليطاً من الرطوبة , و الحرارة , و رائحة أخوتنا الباكستانيين المميزة . بالفعل كان حظي سعيداً ذلك اليوم فلم يدم بقائي على خط السير إلا ما يقارب الساعة . سحبت حقيبتي مع عنقها , فكأني ألومها على تأخرها . و خرجت إلى ساحة المطار , فكنت أبحث عن أسمي في اللوحات التي يحملها المستقبلين , نظرت في كل الزوايا و لم أجد أسمي , و لكن سمعت صوتاً من بعيد يناديني , فأقترب الصوت الذي لا يخلو من بعثرة لبعض حروفه , قدِم أخ باكستاني و سلم علي , ثم عرفني بنفسه و سألني هل أنت نسيم ؟ فقلت نعم أنا هو . فرحب و طلب حقيبتي أن يأخذها بيده , فرفضت ذلك و قلت : لن أكلفك بحملها . فأنا من سيحملها . و لكنه لم يدع لي أي فرصة فأخذها و بقوة . حشرت حقيبتي في مؤخرة السيارة , ثم حشرت نفسي بالمقدمة التي تضيق على جسمي من صغرها , جلست على طرف الكرسي , و ألصقت ظهري على مسندته , و ارتفعت ركبتي إلى مستوى رأسي , ثم وضعت ذقني على أحد الصابونتين من الركبتين , و لففت يدي على الساقين كأفضل مكان أجده لهما . فصرت و كأني طفل في رحم أمه . ثم سألت الأخ الذي أستقبلني هل أنت مرسل من صاحب المكتب الذي أتعامل معه في اختبار العمالة , فقال : لا .فتفاجأت , و هالني الجواب : و أحسست أنني أستعجلت بالركوب معه…نظرت إليه ثم نظر إلي …و للحديث بقية



الحلقة الثالثة :رحلتي إلى بلاد السند و الهند
ثم سألت الأخ الذي أستقبلني هل أنت مرسل من صاحب المكتب الذي أتعامل معه في اختبار العمالة , فأجاب: لا لست مرسل من قبل صاحب المكتب , فأجابته كانت بسرعة و هو مشغول بقيادة سيارته , و ينظر إلى الطريق فكأنه يريد أن ينهي المهمة بأقصى سرعة , و تم كل ذلك بدون أن يهتم للسؤال , أو يحسب أثر تلك الإجابة عليّ…فتفاجأت , و هالني الجواب ..و أحسست أنني أستعجلت بالركوب مع شخص لا أعرفه , أو أطلب بطاقته , أو على أقل تقدير أن لا أكون بهذا القدر من الطيبة و الثقة العمياء…في جزء من الثانية ,  دار في ذهني ألف طريقة من طرق أحتيال النصابين على السياح القادمين إلى مناطق العالم الثالث , و خطرت في ذهني ألوف الحلول لمعالجة هذا الموقف , و لكن للأسف كل الحلول هي بعداد مغامرة قد أخسر فيها حياتي , أو على أقل تقدير ليست محمودة العواقب بدرجة عالية , و لا أعلم كيف تغير بذهني ذلك الوجه البشوش الذي أستقبلني و أحسست بلحظة لقائه بالأمن في بلد لا أعرف فيها نفس واحدة , إلى شخص يتقمص دور اللص الذي يريد أن يوقع فريسته . طرأ في ذهني جواب واحد لكل التساؤلات , و هو أن هذا الرجل قد علم بطريقة ما أن هناك مسافر قادم إلى هذه الأرض للتجارة , و من المؤكد أنه يعتبر فريسة سائغة , و فرصة ذهبية سانحة , فأراد أن يصل إلي قبل أن يصل السائق المرسل من قبل المكتب . و بثقتي , و بقلة حيلتي , و بعدم معرفتي , و بقليل خبرتي في أمور السفر و السياحة , سقطت في أول حفر النصب ,و أول اختبارات الحياة ,  فدخلت القفص برجلي , و أحكمت إغلاق زنزانتي على نفسي بنفسي …نظرت إليه بخوف , و نظر إلي ببرود , توارت عيني عنه خوفاً . ظهر لي شريط الحياة و هو يلف بسرعة و بلقطات مبعثرة , و كأن فلم الحياة لم يُعد بشكل سليم , او قد ركب خطأ فألتف على محركه . فبدأ يبث صور لا تمثل الحياة بحقيقتها …كل شيء ظهر مشوشاً …إلا وجه أمي و أبي …و زوجتي و أطفالي ….و أخوتي و أخواتي …فقد ظهروا بنورهم المعتاد , و لكن يغشى النور خوف و خشية …و أيضاً هناك وجه آخر يظهر و قد قطب بجبينه..فيظهر مرة و يختفي مرة و تبدو عليه علامات اللوم و الحسرة …إنه وجه الرجل الذي حذرني من قبل بأن لا أثق بأي أحد في سفرتي …و كأنه يقول : لقد رسبت في أول اختبار ….و للحديث بقية



الحلقة الرابعة :رحلتي إلى بلاد السند و الهند
في عيني… أستجمعت كل قواي التي أختزنها في نفسي لمثل هذا اليوم…فبدوت أكثر ثقة , و ظهرت أكثر تماسكاً و جرأة …و نظرت إليه بقوة و بعينين مفترستين , حتى أُضعِف من شأنه و أجمع شتاتي لأكمل عبارة واحدة فأقول له : من تكون أنت ؟! … لكنه لم يدع لي فرصة أن أستعرض عضلات العيون , أو حتى أن أنطق بالمكنون . فعرف حديث عينيّ  , قبل أن ينطلق لساني , فأراد أن يستدرك الموقف , و أن يوقف حرب النظرات , و أن يقطع نظراتي المتسائلة , و أن يفكم طلاسم المفاجأة , و أن يسكن مشاعري الخائفة .. فتحدث بهدوء أقرب إلى الصمت فقال :  بل أنا صاحب المكتب بنفسه !! ..أحسست بسيل من الأمان ينزل إلى قلبي  …ثم تحول الأمان إلى حرج يلفني من أطرافي فكأنها عاصفة هوجاء تريد أن تقتلع قلبي و ذلك لأني شككت فيه و تصورته بصورة سوداء لا تليق بمقامه , و من ثم تحول الحرج إلى ضيقاً يحل في صدري و ذلك لأني تذكرت أيضاً أنه رفض إلا أن يحمل حقيبتي في المطار . كل ذلك تم في لحظة قصيرة لا تقاس بوحدات الزمن , و لكن هي تقاس بمقياس تحول المشاعر , بين الخوف و الأمن .
كان اللقاء الأول , و كان الحديث كمثل أي حديث أول . سؤال هنا و سؤال هناك . و إجابات قد تكون معروفة من قبل أن يصدرها السائل . كنت أعتقد أنني أجيب على أسئلته بشكل مبرمج , و بدون أن تأخذ مني تلك الأسئلة أي جهد أو حماس . و كانت الأمطار تعزف على وتر النعاس . بين المطار و المدينة أختار صاحب المكتب الفندق الذي سوف أسكن فيه ,و لا أعتقد أنه يدخل تحت تقيم النجوم , فحتى النجمة الواحدة نظلمها إن صنفناه من ضمنها . وصلت إلى الفندق و لم أرى أي مظهر من عمران المدينة , أو مشهد يبين أنني على مقربة من إسلام أباد , بل و كأنني سوف أسكن وسط غابة , أو هجرة , أو مكان لا أستطيع تحديده أو يستطيع رجل المهمات الصعبة المري / قوقل بن إيرث تحديد نقاطه أو رسم خريطته . نزلنا إلى الفندق و كنا في ساعة من الليل متأخرة , و كانت الأنوار مطفأة , و ضوء خافت في زاوية بعيدة قد سطع على منصة الأستقبال  …يعلن أن هذا الجزء من العالم فيه حياة . و خلف منصة الأستقبال يوجد موظف تغطي المنصة كل جسمه و لم تبقي إلا رأسه …أحس بوقع أقدام , فنهض متثاقلاً , ثم أبطأ الخطوات فكأنما يريد منا أن نقطع أطول الطريق إليه , فيفوز هو براحة و لو حتى جزء من الثانية , و لما أقبلنا عليه رفع صوته بالأستقبال و الترحاب , لم يستطع الضوء الخافت الذي يبذل جهداً خرافياً ليضيء هذا المكان أن يظهر الكثير من ملامح وجه , و لكن ظهر من خلال عينيه أن النوم كان ساكناً فيهما منذ وقت يسير , و بدا من خلال صوته أنه لم يكن له عهد قريب بالحديث ..بل إن آخر الحروف التي نطق بها هي بعض الشخير . بدأت لغة التخاطب بين صاحبي و صاحب الفندق و بصورة مطولة , و كأنهم أخوة لم يلاقوا بعضهم منذ سنين فائته . ثم قدم لي مفتاح الغرفة , أمسكت هذه المرة حقيبتي بنفسي…و لما ذهبت غير بعيد …أستدرت بجسمي فجأة …فوجدتهم ؟!….و للحديث بقية



الحقلة الخامسة : رحلتي إلى بلاد السند و الهند
أستدرت بجسمي فجأة …فوجدتهم أيضاً قد استداروا معي في نفس اللحظة ,و ذلك بعدما وجدوا أن قرع نعال صاحبهم قد توقفت خطواته فجأه…فكان المنظر كمشهد قد تم التدرب عليه من قبل أكثر من مرة…., لقد تذكرت أنني نسيت أن أسأل صاحبي و صاحب الفندق ..متى يبزغ الفجر ؟ و متى تكون الصلاة ؟ و أين القبلة ؟ و لعلهما صعقا بهذه الأسئلة . فتناظرا و تشاورا ثم أعطاني إجابات تقريبية . بحسبة بسيطة من المعلومات التي جمعتها من أصحابي علمت أننا الآن نقترب من الساعة الخامسة فجراً , فقلت لصاحب المكتب  لقاؤنا غداً سوف يكون الساعة التاسعة صباحاً بإذن الله . فتفاجأ صاحب المكتب و قال : لعل غداً يكون راحة لك بعد سفرك . قلت له لعل لي برنامجاً يجب أن أسير عليه حتى أتتمه قبل وقت مغادرتي . صعدت إلى غرفتي , ففتحت النافذة كأول عمل أقوم به بعد أن أستقر بغرفة جديدة , فلم أرى سو ظلام دامس , و نجوم تسرق النظر من بين السحب , و شعاعُ قمرٍ يجاهد من أجل أن يثبت أنه سيد الليل , فلما علمت أن الليل و السحب الكثيفة أكثر قدرة على فرض سوادهما أغلقت النافذة , و أخذت أنبش أغراضي , و ابحث عن ملابسي و ذلك لأسعد بحمام بارد يطرد النوم , و يصبرني حتى صلاة الفجر . بعدما خرجت أحسست بنشاط , و رأيت النور قد بدأ يزور المكان , فتأكدت أن الفجر قد حان , صليت الفجر , ثم وضعت رأسي على المرتبه بعد أن كسوتها بغطاء جلبته لمثل هذه الظروف القاسية . وضعت رأسي على الوسادة فأحسست أن كل روائح الدنيا العجيبة قد تغلغلت في أنفي , و لأول مرة أعرف معنى كلمة ” تغلغلت ” فحقاً لقد عَبَرت عبر أنفي و أستقرت في كل الحويصلات الهوائية في صدري , متمسكة بالشعب رافضة الخروج مع كل حالة شهيق و زفير . حاولت النوم و لم استطع بالرغم أنني لم أنم منذ وقت بعيد , حاولت مرة تلو أخرى حتى سطعت الشمس على جدران الغرفة . فقلت لنفسي لعلي أذهب و أنظر إلى النافذة و أشبع فضول نظري , و أكتشف المنطقة المجاورة قبل أن أنام . في السماء أشعة الشمس تشرق على إستحياء و تلقي تحية الصباح على أهل الأرض من بين السحب المتقطعة . نظرت من حولي فلم أجد إلا آثاراً من حديقة لم تشذب أطراف أشجارها منذ مدة , و رمية في وسطها بقايا لعبة , و آثار لممرات كانت توصل إلى أطراف الحديقة . ونافورة لم يتبقى منها إلى حوضها و غصت بالماء من آثار الأجواء الممطرة . أحسست بضيق أكثر , و نفسيتي تتغير . ذهبت للفراش , و علمت أن تغلغل الروائح خيرٌ من بقائي على تلك النافذة . بلحظة رضا بالمقدر و المكتوب , وجدت نفسي ببحر النوم , و لم أعي إلا على صوت رنين المنبه . فلأول مرة أفرح بأنني أستيقظ و أنا لم آخذ قدري من النوم بالكامل….



الحلقة السادسة : رحلتي إلى بلاد السند و الهند
استيقظت و بحثت عن شيء جديد , أو منظر يدل على أنني في سفر , فتحت عيني على جدران الغرفة و بانت لي عيوبٌ أكثر . بحثت عن هواء نقي , فلم تفلح كل محاولاتي . بحثت عن منظر يسر فيعود بصري خائباً و هو حسير. فقررت القرار الذي لا مفر منه . لملمت أغراضي فوضعتها كيفما اتفق في حقيبتي , ثم وضعتها في زاوية من الغرفة حتى أكون مستعداً للخروج من الفندق بعد العودة من العمل , انسحبت من الغرفة و من خلفي ستارة النافذة ترفرف فكأنها تدعوني لأنظر إلى المطل بوضح النهار فلعل الأمر يكون قد تغيير , لم آبه بتلك الدعوة…خرجت و بدون أن ألتفت لرفرفة الستارة , لقد اتضحت لي الرؤيا مع الصباح , و بانت الزوايا في الفندق , و برغم أن أشعة الشمس تسللت إلى كل زاوية , و لكن بقي الكثير منها كئيبة و كأنها لم تتخلص من لباس الليل الكئيب.. و رائحة أنفاس الناس الذين عاشوا في هذا المسكن . حتى أشعة الشمس التي كنت أنتظر منها أن تتسلل إلى بصري لتنير جوانبه كانت قاتمة …فكأنها تسللت إلى المسكن مكرهة . نزلت عبر المصعد و أزيز حباله يئن من أثر السنين . صمت رهيب يجعل ضربات قلبك هي الصوت الأعلى في هذا المكان . فتح المصعد أبوابه معلناً وصولي إلى صالة الأستقبال , وجدت صاحب المكتب في انتظاري كما تواعدنا من قبل , نظر إلى ساعته و قال : لقد أتيت بالوقت المحدد و بالضبط . ثم أتبع ذلك بابتسامة , و رحب بي فكأنه يراني أول مرة . فلعل نور النهار جعله يكتشف صاحبه من جديد . كانت خطواتي تتجه إلى البوابة الخارجية , و لكنه استوقفني وقال : إن الفطور من ضمن الإيجار , و لعلنا نتناول الإفطار ثم نباشر العمل , كنت على يقين أن الإفطار لن يقل عن حال الفندق . لذا قلت له : أنني يهمني العمل قبل كل شيء و الإفطار قد نتناوله في أي وقت , و لكنه قال : أنني طلبت الإفطار قبل نزولك..فيحسن بنا أن نتناوله . أتى الإفطار ..فكان عبارة عن سندوتش بيض , مع كوب شاي . فقال صاحبي : أبدأ الإفطار فأمامك اليوم عمل شاق . تحت إصراره و إصرار عصافير بطني , و عزمي أن تكون هذه الوجبة هي الوحيدة من وجبات يومي . تناولت تلك السندوتش على مضض – و نحمد الله على نعمه – . و ذلك ليقيني رغم عدم مشاهدتي أن مافي المطبخ من النظافة أسوء من سوء نظافة الغرف . ترتفع الحموضة عندي بتوفر ثلاث ظروف , السهر , و الروائح الكريهة , و الطبخ المغرق بالزيوت . فكانت الحموضة في ذلك اليوم حاضرة و بالدرجة الكاملة . لم يدم الإفطار أكثر من خمس دقائق ,نفضت يدي و استعجلت صاحبي , فقال : لعلك تشرب كأساً آخر من الشاي . فقلت له : العمل أولاً . فعرف و فهم أن شعاري ” لا تنازل هذه المرة ” .
خارج الفندق النسمات رقيقة , و الجو عليل . و رطوبتها تنزل في الرئة فتنقيها من كل شائبة ..فتزيد من همتي لإنهاء أعمال أكثر من المقررة في ذلك اليوم . الطريق من الفندق إلى وسط إسلام أباد أستغرق ما يقرب النصف ساعة . بدأ حديثه معي في الطريق بسؤال منه عن ليلة البارحة , و هل نمت بقدر كافي , فكان الجواب الذي انهمرت حروفه.. فكأني أنتظر مثل هذا السؤال فهي فرصة سانحة , أن أشكي له حالي و همي . و عدم وصول النوم إلى أطراف عيني . ثم لم أدع له مجال لأن يمسح دمعة الحزن التي أبديتها من خلال شكايتي بمواساتي بكلمات . فقلت له : و مباشرة أريدك أن تكلم الفندق بأنني سوف أخلي الفندق هذا اليوم . و أتمنى أن تبحث لي عن فندق من فنادق الدرجة الأولى . و لكن يظهر أن طلبي لم يروق له بالشكل الكافي . فقال : نتكلم بهذا الموضوع عندما ننهي أعمالنا في وقت لاحق . قلت أخشى أن نأتي في المساء فيكون اليوم محسوب. فقال لا إشكال إنني أعرفهم. أقنعت بقوله . ثم غيرت مجرى الحديث إلى خطتي لأعمال ذلك اليوم , و التي أمليتها له من قبل أن آتي إلى باكستان .و صلنا طرف البلد . ثم دخلنا في حواري صغيرة , فكأنما صممت تلك السيارة من أجلها , فتكاد أن تلامس المرآتين أطراف جدران ذلك الطريق . و عندما يزداد الطريق ضيقاً يلتصق المارة بالجدران , أو يبحثون عن فتحات الأبواب . من أجل أن يمر أحدهما . كانت البنايات على الأطراف عبارة عن بلك بدون تسليح . أو طينية قديمة . وقفنا بجانب عمارة ذات طوابق متعددة تعتبر أفضل العمائر في ذلك الحي . فصعدنا إلى الدور الثاني حيث يكون مكتب صاحبنا . في مكتب صغير مقسم إلى مكتبين فقط . يفضي الثاني إلى الأول . جلست على كنب يشتكي من ظلم الذين مروا عليه . فقد أوهنوا عظامه بثقل أجسامهم . و مارسوا هواياتهم بالنقش على أطرافه , أو الكتابة على جلده . جلس صاحبي أمامي فقال : ماذا تريد أن تشرب ؟ كان جواي الذي أعددته من قبل ..شكراً . لا أحبذ الإكثار من المشروبات . و لكنه لم يمهلني لأعلل أو أعتذر . فقط ضغط على جرس الخادم الذي يعمل لديه بالمكتب . فسمعت الباب يفتح . و كعادة الغريب يُلفت انتباهه أي حركة من حوله . انتقلت إلى لأنظر إلى مصدر الصوت  . فوجدت صبياً في العاشرة من عمره . عليه ثيابٌ متسخة , و شعرٌ أشعث و من أحد جوانبه قد أكله مرض الثعلبة – فالحمد لله الذي عافانا مما أبتلاه به – فأقشعر جلدي من منظره , و رق قلبي لحاله , و تحجرت دمعة في عيني من سوء وضعه . ابتعدت كثيراً بتفكيري و تأملت كثيراً حال هذا الصبي . تقدم الصبي بخطوات بطيئة مليئة بالفزع و الخوف . ثم تابع حديثه مع صاحب المكتب بلغة و بلهجة لا أعرفها. فأطرق صامتاً صاحب المكتب ثم قال : إن الصبي يسألك ماذا تشرب ؟ …و للحديث بإذن الله بقية



الحلقة السابعة : رحلتي لبلاد السند و الهند
لقد شربت من كأس النصب و التعب في ذاك اليوم حتى ارتويت , فكنت قد أنهيت اختبارات العمالة قبيل المغرب , و واعدت العمال الذي استطاعوا تجاوز الاختبار أن يأتوا للفندق من أجل أن أوقع معهم عقود العمل . وصلت مع صاحب المكتب للفندق , ثم بعد فترة أتى العمال , و كان الخطأ الذي ارتكبته و ينم عن عدم الخبرة , أن استدعيتهم إلى الفندق , و لم أكتفي بذلك بل أخطأت خطأ أعظم , و ذلك بأن استقبلتهم في نفس غرفتي , فلم أكتفي أن يكون الاستقبال في باحة الفندق بل زدت من الكرم العربي و اتفقت أن يكون اللقاء في عقر داري . سمعت طرقت على الباب فإذا بالعمالة قد حضروا . ملابسهم بسيطة , و عليها أثر العمل الذي نفذوه في الاختبار . و عليهم من نظرات الفرح التي تظهرها عيونهم قبل أن تبديها وجوههم  . كان أحدهم عريض المنكبين , اسمر البشرة , و على خده تتوزع شعيرات بيضاء هي بقايا من شعيرات تركت عنوة . كان شكله بجسمه الضخم مهيباً . وكنت أعتقد بل أجزم أن يده لو هوت على جسمي لأصابتني بأضرار جسيمة . على النقيض من ذلك كان هناك عامل آخر نحيف جداً , حتى أن خديه غائرين بين عظمتي الفك , و قد كتف يديه على صدره , و أنزل رأسه في الأرض حياءً .فكنت أشفق عليه و ارحمه من رعشة الهيبة التي عجز أن يخفيها عن نفسه , إلا أنه يحاول عبثاً أن يتماسك و ذلك بوضع يديه المكتفتين إلى صدره .فكنت أعتقد أنه سوف يهب لنصرتي و الدفاع عني لو كان العامل المهيب أراد أن يختبر قدرته على اللكمات الخطافية في أطراف وجهي …ظلوا وقفين , فأمرتهم أن يجلسوا ..فتحدثت معهم.. فكنت كلما نطقت بكلمة أو أشرت بإشارة أجدهم يتبسمون و هم لا يعلمون ما أقول , و لكن هي مجاملة صاحبهم الجديد .فتحت الحقيبة من أجل استخراج العقود و تنبهت أن الحقيبة قد شدت الأنظار , و هذا خطأ آخر , فعمدت أن أجعلها مفتوحة أمامهم , لتظهر بأنها لا تحتوي سوى العقود و الأختام و بعض الأوراق . وقعت العقود , وطلبت منهم التبصيم , و ذلك بعد أن طلبت من صاحب المكتب أن يخبرهم بالمرتبات , و أن يشرح لهم ظروف العمل هناك . فتمت الموافقة منهم على الشروط , و حانت منهم ساعة الوداع فتقدموا و هم يتحدثون بلغة لأعرفها , و كادوا أن يقبلوا يدي من انحناء ظهورهم , فرحاً بأن تمم الله لهم عقدهم ,  ثم لم يلبثوا إلا قليلاً فذهبوا . فاستودعني صاحب المكتب ليذهب معهم . فخطى خطواته الأولى . ثم قلت له قبل أن يخرج إلى أين أنت ذاهب ؟!  قال : لقد أتعبناك هذا اليوم ..فنلقاك بالغد . قلت نعم سوف نلتقي بالغد , و لكن هناك أمر مهم ..ألم أخبرك في الصبح الباكر أنه يجب أن أغير الفندق هذا اليوم . قال صاحب المكتب : لعلك اليوم متعب و غداً نغيره . فقلت المعذرة فلن أستطيع التأخير إلى الغد , قال سوف أذهب أبحث عن فندق ثم آتي إليك . فقلت أيضاً المعذرة سوف أذهب أنا و أنت و حقائبي ( شكله يقول و الله النشبه ) , ثم أتبعت حديثي و قلت عفواً أريد أيضاً أن يكون الفندق من فئة الخمس نجوم , فأحسست أن صاحبي يكاد أن يسقط على رأسه , خاصة أن المكتب متعهد بالسكن . ذهبنا لوسط أسلام أباد . فدخل في شوارعها الرئيسية ثم توقف بجانب فندق الهوليدي إن . فقال سوف اسألهم و أعود إليك , قلت له سوف أذهب معك . تبسم فقال لا نريد أن نتعبك …فأتبع حديثه و قال : سوف أذهب مسرعاً و أعود إليك . عاد بعد فترة قصيرة فقال للأسف لم أحصل على غرفة فالفندق مليء بنزلاء حضروا من أجل مؤتمر هنا . قلت حسناً سوف أتصل على صديقي في السعودية ليتدبر لنا الأمر و يحجز عن طريق شبكة الفندق الرئيسة للهوليدي إن …أخذته الدهشة . ثم صمت برهة ..ثم قال : لعلي أعيد المحاولة مرة أخرى.أحس صاحبي أن لا فكه..و أحسست لمرة الأولى أنني قد استخدمت جميع أسلحتي بالتشبث بقرار الانتقال من ذلك الفندق القذر….و للحديث بإذن الله بقية

 

 

عن سليمان الصقير

محب للسفر والترحال : مؤلفاتي : 1- 800 خطوة لرحلة سياحية ممتعة 2- 150 طريقة ليصل برك بأمك 3- أمي أنتِ جنتي 4- بنيتي لكِ حبي 5- مذكرات مدمن إنترنت

شاهد أيضاً

يوميات مسافر – 7 –

 الحلقة السابعة : رحلتي لبلاد السند و الهند لقد شربت من كأس النصب و التعب …

4 تعليقات

  1. سرد رائع بانتظار البقية..

  2. حياك الله يا كل الإحساس
    سوف يسعدني حضورك للحلقات المتبقية
    و كن مستعداً فسوف نعبر السند إلى بلاد الهند

  3. محمود مقدسي

    في الحقيقة اعجبني طريقة سردك التي لا تخلوا من المبالغة

    انت كاتب محترف وتعرف كيف تلعب بالافاظ وتحبك القصة المشوقة

    يجب ان تكتب روايات , بلا مزاج يجب ان تفعل

    مودتي
    محمود مقدسي

  4. الأستاذ / محمود مقدسي
    شكر الله لك مرورك الكريم
    و بارك الله فيك على ثناءك العظيم
    و زرتنا فسعدنا..
    و منحتنا من وقتك فسررنا..
    نحن أقل من كل ذلك الذي ذكرت..
    نحن هنا نجمع حروفنا باسم خربشات القلم..
    تحياتي لك و بارك الله فيك