الحلقة الثانية : زيارتي إلى شقراء و أشيقر

الحلقة الثانية : زيارتي إلى شقراء و أشيقر

  

أبتعلتني طرقات المدينة الضيقة و ضمتني بين جوانحها . فكأنها تريد أن توصلني إلى فؤادها عبر شرايينها , أو كأنها تريد أن تطلعني على مكنونها الجميل عبر طرقاتها .

 

 في تلك الطرقات أتخيل المارة من نساء أهل البلد و كيف كان الحياء يلفهن في ذاك الزمان . فقد عُرف في في ذلك الحين أن جدران المدينة الطينية يوجد بها خط يوازي الكتف  . و هذا الخط قد نحتته أكتاف المارة من النساء . فقد كان الحياء يغلبهن عند مرور الرجال أمامهن في الطرقات . فيتنحين عنهم فتصطدم أكتافهن بمباني الطين حتى يوسم الجدار بخط من أوله إلى آخره . فالله درهن من أمهات لبسنا الحياء خير لباس , و يالهن من أمهات عرفن الدين فطرة و هن لم يجلسن في مجالس العلماء المعلمين .

تجولت بين مباني تلك القرية و كنت أرقب من بين مبانيها الطينية عهد الآباء و الأجداد , و أتصور حالهم , و مآلهم , و حياتهم . بل عيناي تتجولان في كل أرض من تلك الأراضي التي أكل الدهر عليها و شرب على أرض الواقع . و لكنها سكنت في قلوب محبيها و لم ترتحل .  

في مكان قريب من المسجد . يوجد سوق البلد و هذا السوق قد صفت دكاكينة , و زينة مداخله , و وضعت جلسة في مقدمته , و غرست لمبة في أعلاه ,و في وقت الصلاة قد أغلقت أبوابه .

 

في تلك المحلات يتنافس التجار بشرف لخدمة أهل البلد , فهم يسعون بكل ما يملكون من قوة أن يوفروا لأهل البلد متطلباتهم و حاجياتهم و أن يكفونهم العناء لجلب مايحتاجونه من المدن البعيدة .فهم يقومون بذلك عنهم فيجلبون البضائع من المدن البعيدة , ثم يعرضونها في دكاكينهم المتواضعة .

 

على عتبة الدكان توجد جلسة يسميها أهل البلدة ” المجلس ” هذا المجلس يتداولون فيها أحاديثهم و شؤون بلدتهم , و أحوال أهلهم و عوائلهم . و يتخابرون عن غائبهم , و يتساؤلون عن حال مريضهم , و يتناقشون بحل مشاكل قريتهم , و يطمئنون على أحوال المحتاجين من بلدتهم .

حتى وقفت على بيت تظهر عليه آثار النعمة . و أن أهله كانوا من تجار البلدة , و ذلك لما يظهر من عظيم مبانية و من أدواره المتعددة , وغرفه المنظمة , و سعة باحاته الأرضية و المطلة .          

نظرت إلى أبوابه , و لمسة الفن التي نقشت على أطرافه , و الحسن الذي أتقنت به نوافذه , دلفت الباب و دخلت  , ثم جلت ببصري في أرجاءه , فهالني منظره و روعة جماله .

درت بين جنباته , و تفرجت على غرفه و باحاته . و رأيت كيف كان يسكن أهله ؟  و كيف يعيش أصحابه ؟ و شاهدت تقسيم أجزاءه و تنظيم أدواره , و جمال درجه . و تعدد مجالسه .

 هذا البيت يتكون من الدور الأرضي و الدور الأول و السطح , و يصل بين الأدوار درج في وسط البيت قد إلتفت من حوله الغرف . فأطلت غرفه العلوية على صالته الأرضية فكأنه من تصاميم البيوت الحديثة . شبعت جدران البيت بالجبس الأبيض , وسقفت أسقفه بسيقان أشجار الأثل الصلبة و التي أستخرجت من نفس البيئة . و إتكأ البيت على أعمدة ممتدة من حجارة مبرومة تم تغطيتها بخلطة طينية . و من ثم جبسية .      

أيضاً مما استغربته أن ” القهيوة ” أو مشب النار في الدور الثاني , و زين بجدران منقوشة , و كمر يحمل الدلال و الأباريق بشكل رائع فريد . و تحتوي تلك الجدران على أدراج إما للتحف أو لحمل بعض أغراض البيت .
و مما يزين ذلك المجلس إطلالة على المزارع المحيطة , و نافذة على القرية بشكل كامل , و شباك يسمح لأشعة الشمس أن تنير جوانبه . ناهيك عن فتحة في سقفة تسمح بإخراج الدخان الناتج عن إشعال النار في وجاره . و يجمل ذلك المجلس استدارة تجعل من يجلسون في ساحته متقابلين .
و يزيد من الروعة باب تفننت به يدع فنان بارع قد تم عمله بمهارة و إتقانه بشكل رائع , ذلك الباب وقف مرحباً بكل زائر , و فاتحاً ذراعيه ليستقبل كل ضيف , و مشيراً بيده إلى أهم مكان يهم أهل البيت .

من على جوانب البيت صفت الغرف , و هذه الغرف صغيرة بشكل لا يتصوره الزائر في هذا الوقت , و هي بنظر أهل زمانها باحات ممتدة , و غرف قصور رفيعة فارهة .

صعدت إلى الدور الثاني منه فوجدت غرف صغيرة , ونصبت في مقدمتها أبواب رائعة فريدة , نظرت إلى كل غرفة فوجدت الغرف بقدر لا يتصوره العقل . فكيف جمعت هذه الغرف أهل ذلك البيت . و كيف ضمت بين جوانحها أفراد أولائك العائلة .

أما اليوم فغدى مثل ذلك البيت من شيئاً من الأطلال , و وجود مثل غرفه الصغيرة معجزة لا تتصورها العقول , أو يفكر بمثلها أي إنسان , فاللهم لك الحمد على نعمك العظيمة .

المنزل رائع و جميل حتى بعد التجديد و الترميم , و لكن لعل القائمين عليه يكملوا روعة المشهد بتأثيث الغرف و الأماكن على الطراز القديم . و لكن إن لم يؤثثوه على نترك البيت بحاله , لا فعقلي لم يترك لهم مهلة حتى يؤثثون البيت . فأثثته ببصري , و بدأت أتصور حال أهل البيت , و أطفالهم , و ضيوفهم , و زوارهم . و كلٍ في شأنهم و عملهم .

 فأتخيل كيف الصغار و هم بثيابهم الواسعة, و قد ظهرت البقع بأشكال متعددة . الأطفال بأحوال عدة , فهذا طفل يبكي ,و هذا يقفز , و ذاك بيده كسرة خبزة يأكل .

 و بين ردهات ذلك المبنى تجد الأم بغدفتها ” مسفعها ” تعمل و تنظف , و تصوت و تنادي , و تطبخ و ترتب . تنظر إلى عملها فترة ثم تتابع أطفالها فترة , و تطل على غنيماتها فترة أخرى . بيدها حطب لإشعال نار طعامها , و بيدها مكنسة خوص لتنظيف ردهات منزلها , و بقلبها حب يتوزع على من حولها .

 الأب قد علق ثوبه الذي صنع من الخام و شماغه الذي مزقته الأيام في خشبة أثل قد غرست بجدار , و جلس على بساط قد زين بخطوط حمراء و زرقاء . قد هدت الأيام من حياته و أكل التعب من جسده و ابتسامته . بيده فنجال قهوة و أمامه تميرات قد خرفت للتو من نخيل البيت , فهو يرتشف رشفة و يتبعها تمرة , فتذهب عنه العب و النصب .

أما البنت الكبيرة فجلست في زاوية , و بين يديها إبرة و خيط , فهي تنظمها بيدها لتنغرس خيوطها في وسط قماش ثقيل يعد لأيام العيد .

تسمع من حولك صوت السواني , و ثغاء الأغنام , و زقزقة العصافير , و صوت الباعة , و بعض سواليف الجيران الذين يجلسون بالباحة .

مع قرب مغيب الشمس يعود الجميع إلى بيوتهم بعد أداء صلاة المغرب . فيجتمعون على وجبة العشاء , و تفرش الفُرش في السطح حتى تكسبها النسمات براداً و رطوبة لتستقبل أجساماً هدها التعب و أضناها النصب , و أرهقها البحث عن لقمة العيش .

 بعد صلاة العشاء يذهب الأب إلى السطح و بيده سراج صغير يضيء له ماتحت قدميه , حتى يصل إلى فراشه لينام في زاوية من زوايا السطح الرحب , و تنام الأم و أطفالها في زاوية أخرى .

 و قبل أن تنام الأم فهي تقص على أطفالها قصة قصيرة حتى تحافظ على هدءوهم , و حتى لا يرتفع صوت الأبناء فيزعج الجيران من حولها .

فالبيوت لا يفرقهم عن جيرانهم إلا جداراً قصيراً يرى حركة من خلفه , و يسمع حديث ما بعده .   لحظات من و الهدوء و الهمس , و شعاع من ضوء القمر أو نجم قد سقط و نزل . ثم بعد وقت قد يطول بحسابه و قصير بعمر أصحابة و إذ النور ينبلج قبيل الفجر . و يتبين الخيط الأبيض من الأسود .

فأشرقت الشمس و خرج الناس من بيوتهم , و أطل أهل البلد على مزارعهم , و بدأت الحياة تدب على الأرض من جديد .

 

نعود إلى الرحلة فلم نتوقف عند هذه النقطة بل كان مقصدنا مكاناً آخر وهو المطل ألذي أمتدت إليه يد الإسفلت حتى و صلت إلى قمة رأسه …

 من صعد إليه يحس أن الأمر قد تغير عليه , فقد أنتقل من أرض مزارع و نخيل و مباني و بيوت طين إلى أرض مستوية , تجعل تلك المدينة و كأنها لعبة صغيرة أو مجسم قديم لبلد قد أتقنته يد مهندس قدير , أو تحفة قد نقشتها أصابع مبدع .

 هذا المطل زين بمظلات واسعة رحبة , و هو يطل على تلك البلدة , و تحيط بتلك الجلسات و المظلات أشجار زينه , و مياه للزائرين معدة , و توصلك إليها ممرات معبدة , و لم يقف الأمر على ذلك فحسب بل بجانبك مقبس الكهرباء و مفتاح الإنارة , فيالها من رعاية كاملة .

و كالعادة في تلك البلدة كانت الخدمات متوفرة لأقصى درجة , بل يصل لحد الدهشة , فهل الأرض لم تطأها قدم أم الأمر فيه سحر , فهي نظيفة لدرجة غريبة . كانت تلك المظلات هي مقيلنا , و هي محل غداءنا و قهوتنا , أنس بالنفس , و نسمات تنسنس , و صحبة تؤنس , و جو عليل , و منظر يبرز فيه الجمال الحقيقي الأصيل .

هذا المطل يطل على البدلة القديمة , بمبانيها الطينية , و يطل أيضاً على البلدة الحديثة بمبانيها الخرسانية , هنا مسجد طيني ,
و هناك مسجد خرساني قد عانق السماء بمناراته , هنا أحياء متلاصقة و بيوت مترابطة , هناك أحياء مترامية , و بيوت واسعة , هنا طرقات ضيقة و هناك شوارع فسيحة مزفلته . النقيضان أمامك في تلك الصور و كل الذي عليك أن تسرح بخياك في كل عالم على حده , و تنظر كيف تولد ها العالم الجديد من ذلك الأصل الفريد .
في جانب من جوانب المطل , أسس مسجد جمع بين الحسنيين من محاسن المعمار , فخارجة قد بني بالطرق الحديثة , و أما داخله فقد لبس بالطين و الجبس و أخشاب الأثل النظيفة , فغدى المسجد عبر سجادة البني كتحفة معمارية تربط بين الماضي و الحاضر, و كأن المقصد من ذلك أنه مهما تغيرت الأحوال فيبقى شيئاً واحد لا يتغير , و هو التمس بهذا الدين , و لزوم عمود الأسلام .
    

قبل أن أخرج من المطل نظرت للبيوت الطينية نظرة مودع و ذاكرتي سارحة في ذكريات أهل تلك البلدة القديمة .

 

 انظر مزارعهم و جميل زرعهم فأغبطهم على جمال الخضرة من حولهم , ثم أنظر إلى هذا المطل و هذا المنظر الذي يسر فأعلم أن الأرض ارض خير فأدعو الله أن يزيدهم , ثم أنظر إلى الدور و القصور المشيدة الحديثة فأقول : بارك الله فيهم على جميل صنعهم لبلدتهم و أهاليهم .

 و بهذا الكلمات أرجو أن أكون قد فتحت لكم نافذة على بقعة عزيزة على قلوبنا ….

 

فلآن استبحكم عذراً لأن أغلق موضوعها , و أعلم أن محتواها و عشقها سوف يبقى في قلوبكم …فتحياتي لكم…

 

 

في الختام :

نسيتي المزح بالقبه …..
ونسيتي لعبنا الطبه…
نسيتي كشختي دايم …..بثوب دوبلين خبخبه..
نسيتي غترة الملل….. تغطيني تقل جبه..
نسيتي الركض بالطايه ….. لا صار بدارنا شبه..لاجابو فضلة القرصان ….. نتسابق ودنا نلبه…
نسيتي ازعاجنا لمك ….. وهي بالحوش منكبه..
نسيتي معلف ام العوف ….. تظفينه وانا اكبه..
نسيتي ثوبك التنتر ….. وغيضك لانقطع حبه…لاجابت امك الوازلين ….. نهج للحوش ما نحبه …تبي تدهن قوايمنا ….. وحنا نهوش ونسبه..

 

نسيتي بسطة عزيز ….. الي جا العصر بالقبه…
نسيتي خرطه الماصل ….. يجيب الحكي من عبه
نسيتي القربه الشنه ….. وماها البارد نتفه ..
نسيتي قولك معصقل ….. وانا اعيرك يالدبه..
نسيتي نعالنا التليك ….. هي الموتر ونلعب به..
نسيتي من كثر ركضك….. انا مسميك يالذبه..

 

نسيتي موعد الحنا ….. الى جا صابكم خبه..
نسيتي طيحتك بالليل ….. وهي ظلما وانا السبه..
نسيتي اكلنا الهبود ….. نتناقر والسبب حبه..وامك لاتهاوشنا ….. تحط بعيوننا شبه..
نسيتي ثوبك الكرته ….. ننكت فيه ونشبه..
نسيتي كحة المذن ….. قبل ما يذن ينبه..
نسيتي تريكنا المصنق ….. ننفخه قبل ما نشبه..وندعي الله يا كود العنز………. تجيب وليد نلعبه

تحياتي لكم نسيم نجد

 www.naseemnajd.com

naseemnajd@gmail.com

  

عن سليمان الصقير

محب للسفر والترحال : مؤلفاتي : 1- 800 خطوة لرحلة سياحية ممتعة 2- 150 طريقة ليصل برك بأمك 3- أمي أنتِ جنتي 4- بنيتي لكِ حبي 5- مذكرات مدمن إنترنت

شاهد أيضاً

زهور الربيع

رحلة إلى البراري حيث تنثر الأرض زهورها في الرياض و الفياض, فعانقتها الكلمات , و عشقتها الصور ..

6 تعليقات

  1. ربما لا تغنينا الكلمات عن عبق الماضي ولكن مرافقة كلماتك لهذه الصور أعطت للذاكرة روحاً فوقفت وكأنها تتنفس عبق المكان وكلّ مافيه ….

    سلمت يمناك على هذه الرحلة الجميلة بين أحضان أشقر وشقير

  2. FaRaH M يقول :
    ديسمبر 7th, 2007في3:54 pm
    ربما لا تغنينا الكلمات عن عبق الماضي ولكن مرافقة كلماتك لهذه الصور أعطت للذاكرة روحاً فوقفت وكأنها تتنفس عبق المكان وكلّ مافيه ….

    سلمت يمناك على هذه الرحلة الجميلة بين أحضان أشقر وشقير

    أخي الكريم..
    جميل من أهل تلك البلدة أن أعادوا بناء تلك البيوت القديمة , فكأنهم نشروا أريجاً فواحاً ليذكر النفوس بأصحاب و أحباب قد طوت السنون أيامهم و لم تنسينا لأيام ذكراهم , فهم قد احتوتهم الأرض , و جميل ذكرهم قد ملء القلب .
    تحياتي لك أخي الكريم على مرورك الرائع

  3. شكرا على الصور الرائعة زاد من جمالها التعليق المصاحب ( حياء النساء ) ألا ليت الماضي يعوددددد

  4. روعة
    ليس لأني أنتمي إلى هناك فحسب

    بل ما للصور والتعليق من جمال

    سلمت يداك

  5. أختي الفاضلة / حصه
    ليس لأنني أحب تلك البلاد فحسب
    بل لأن ما تملكه من روعة و جمال يجعل المرء يفيض بذكر المحاسن .
    بارك الله في مروركم

  6. أخي الحبيب /abuadyb
    حياك الله أخي الفاضل
    و روعة موضوعنا من روعة مروركم
    تحياتي لك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.