عليك السلام ياسلطان التواضع والإتزان (سليمان بن عبدالعزيز السلطان رحمه الله)

عليك السلام ياسلطان التواضع والإتزان (سليمان بن عبدالعزيز السلطان رحمه الله)

  • في يوم الإثنين الماضي وعند منتصف النهار, وبعدما قاربت الشمس أن تأخذ مكانها في منتصف السماء, توقف نبض الحياة في أحد مكاتب إمارة منطقة القصيم.
  • حس الجميع أن هناك سكون غريب, ومهيب, ومخيف, وموحش يحط رحاله بالمكان , بدأت الأخبار تتناقل أن (العميد سليمان بن عبدالعزيز السلطان رحمه الله) قد ألمت به نازلة فأدخلته بحالة من الإغماء.
  • هب الجميع لنجدته, وبرغم الحرص والتسارع باسعافه لم يكن هناك بدُ من القدر المكتوب, فخرجت روحة الطيبة كما تخرج القطرة من فم السقاء,  فكانت تلك اللحظات هي آخر لحظات حياته عليه رحمة الله .
  • ترجل الفارس عن مكتبه بعد أن أعطى كل مالديه لدينة و مليكه و وطنه, أعطى بحب وتفاني وإخلاص, ولم  يذخر أن يفيد من حوله من معين تجاربه, حيث تزخر حياته بفصول مختلفة, وألوان متعددة, ومشارب شتى أروت من حوله من منبع عذب زلال, فارتووا من مناهل علمه ومعرفته وأخلاقه وقيادته, وليس ذلك مستغرب عليه فقد كانت فصول حياته مليئة بالخبرات, فحياة اليتم تعلم منها اللين والعطف, ودراسته في كلية الملك فهد الأمنية تعلم العلوم العسكرية والحزم, ومن عمله في بلاط الإمارة استقى من أصاحب السمو الملكي الأمراء الحنكة والحكمة والتميز والقيادة, فصقلته تلك التجارب بشكل فريد ونموذج رائع قلما تجتمع في فرد واحد, فكان نموذجاً يشار إليه بالبنان.
  • رحل أبا عبدالعزيز رحمه الله تعالى مبتسماَ بعد أن تسحر معنا في هذه الحياة الدنيا, وأما فطوره بإذن الله تعالى فهناك من أنهار الجنة وثمارها ( مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ۖ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى ۖ وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ)
  •  هناك (بإذن الله تعالى)  سيقول (ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله) ,حيث لا نصب ولا تعب ولا ظمأ الحياة وكدرها, هناك حيث الراحة الأبدية , والسعادة السرمدية.
  • خرج من باب الدنيا, وسيدخل (بإذن الله تعالى) من باب الريان: عن سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” في الجنة ثمانية أبواب فيها باب يسمى الريان لا يدخله إلا الصائمون ” . رواه البخاري.
  • ترك أحب مالديه, مسكنه, وأهله, و ولده, وكأنه يقول سنلتقي بكم مرة أخرى بدار السعادة, لقد حن به الشوق الكبير لأمه التي غامبت عنه في صغره, فأحاط به اليتم فآلم قلبه الغض الطري, وألبسه فراقها لباس الخوف والحزن والبؤس, وهناك اللقاء مع والده الذي كان ظله الطويل في رمضاء الحياة , وركنه الشديد بعد أن إنكسر عظمه بفراق أعز الناس على قلبه, وسنده القوي المتين بعد أن جفت حياته بوفاة أمه, هناك حيث اللقاء (بإذن الله تعالى) مع النبي اليتم محمد بن عبدالله عليه الصلاة والتسليم الذي بعث رحمة للعالمين, هناك في جنة عرضها السموات والأرض مع الأنبياء والصديقين والشهداء قال تعالى :(وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَّسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33)) 
  • إنتقل إلى رحمة الله تعالى وبوفاته طويت واحدة من أكثر الصفحات نقاءاً , وأكثرها صفاءاً , وأشدها بياضاً ,وأوضحها سطوعاً, وأعظمها أخلاقاً.
  • بوفاته (رحمه الله) شرب (الخُلق الحسن) كأس الحزن عليه, و تيتم (التواضع) بفراقه, و فقدت البشاشة رفيق دربها, وأصبحت الإبتسامة باهتة من بعده.
  • بوفاته (رحمه الله) إنكسرت شمس (الأثر) فلا ظل يوازي ظله ليقتدي به, وتمزقت سحب (الكرم) فلا غمامة توازي جميل أفعاله.
  • عرفته (رحمه الله) بشوشاً, خلوقاً, متواضعاً, صادقاً, كريماً, عزيزاً, باذلاً, متسامحاً, فاضلاً, صابراً, وأكثر من ذلك مماخفي علي وعلى غيري من فضائل أخلاقه.
  • كان المرحوم إبناً للصحراء محباً  لها لأن في سعتها مايشابه رحابة صدره, وفي نقاء سماءها مايوازي صفاء قلبه, محباً لأجوائها, قمرها ونارها ففيهما من جميل خصاله فهما دفء ونور, وعلامة جمال وجود وكرم, و أنس وسعادة.
  • عرفته (رحمه الله) خافضاً جناحه لكل كبير فكأن كبار السن كلهم والديه, فيتعامل معهم بلطف يفوق الوصف فيتمثل الآية الكريمة: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ).
  •  عرفته ليناً مع كل صغير, عطوفاً عليهم, قريباً منهم فكان سقاؤه الذي ينهل منه أية رب العالمين (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ ).
  • زرته منذ مايقارب 20 سنة في مكتبه, وحضر (القهوجي) ليسكب لنا القهوة, وكان (القهوجي) كبير سن, فلما دخل علينا نهض سريعاً أباعبدالعزيز (رحمه الله) وأخذ القهوة منه, وكبير السن يرفض ذلك لكن أباعبدالعزيز لم يدع له متسع للحوار, فقال كيف تسكب لنا القهوة وأنت بمقام والدنا الكريم, و هذا ديدنه مع الناس في التواضع, ومن يعايشه يعلم  أكثر من ذلك عنه, فالنجوم التي تتزاحم على كتفه لم تزده إلى رفعة في الأخلاق, والتيجان التي ترصع بدلته لم تزده إلى سمواً في التواضع, والنياشين التي تشبثت على صدره لم تبدل نظرته لمن حوله إلىً إلى رقي وتقدير وإحترام , فالذي متيقن منه أن المرحوم لو سلك طريقاً لسلك الكِبر طريقاً آخر.

ملأى السنابل تنحني بتواضعٍ ** والفارغات رؤوسهن شوامخُ

  • حدثني ذات مرة أنه في تعيينه الأول في الشرطة وفي وقت المناوبة , حضر إليه من عليه قضية, وكانت القضية تستلزم أن تستكمل أوراقها ومحاضرها في وقت الدوام الرسمي, ويقول رحمه الله: عندما رجعت للبيت لم يغمض لي جفن ولم أنعم بمنام بالليل, حتى عدت مايقارب 70كلم من أجل أن أفرج عن الرجل المحجوز, وأخبره بالمراجعة بوقت الدوام, وذاك ليس بمستغرب على من سكن العطف واللطف قلبه, وعلى من كان الناس همة ومحل نظرته وإهتمامه.
  • إن حدثت الرجل عليه رحمة الله أقبل عليك بسمعه وبصره وجسده, وإن كنت تعيد القصة عليه ناسياً, سمعها كاملة مندهشاً مع تفاصيلها وكأنه يسمعها أول مرة, وإن حدثت الرجل راوياً موقفاً حزيناً لك استمع لك بصوت حنون وكأنه يتألم لألمك ويواسي مصابك, عرفناه صادق المشاعر , تام الإحساس بمن حوله.
  • كان لبوسه السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم, فعندما تعرفه (رحمه الله) تجد كأن الحديث النبوي ينطبق عليها بتفاصيله, حيث قال المصطفى عليه الصلاة والسلام: { أحب الناس إلى اللّه أنفعهم، وأحب الأعمال إلى اللّه عز وجل، سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي ديناً، أو تطرد عنه جوعاً، ولئن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إليَّ من أن أعتكف في المسجد شهراً } [رواه الطبراني].
  • لقد رحل عليه رحمة الله , وخلف من بعده أثراً عطر, فعبدالعزيز وصالح ومحمد وفاطمة ونورة, كلهم مصابيح مضيئة من حياة أبيهم الجميلة, وهم رواية جديدة من حكاية سليمان عليه رحمة الله,
  • توفيق رحمه الله يوم الأثنين 21/9/1442هـ وفي الحديث الصحيح الذي  خرّجه مسلم في الصحيح تعرض الأعمال على الله يوم الإثنين والخميس، فيغفر لكل مسلم لا يشرك بالله شيئًا إلا رجل كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقول الله دعوا هذين حتى يصطلحا.
  • توفي أول أيام العشر الأواخر من الشهر المبارك حيث شهر العتق من النيران, وتنزيل القرآن الكريم , وفي ليالي عشره الأخيرة ليلة هي خيرٌ من ألف شهر, فرحمة الله عليك أباعبدالعزيز وأحسن الله عزاءنا جميعاً بفقدك وجعل الفردوس الأعلى منزلتك و والدينا ومن نحب يارب العالمين.
  • تذكير : هنا كيف تستمر بالبر بعد وفاة أعز الناس عليك (الرابط)

موضوعات مشابهة :
غابت شمس (أمي العظيمة) عليها رحمة الله

رحل الشيخ محمد السحيباني (رحمه الله) وبقي الأثر

عن سليمان الصقير

محب للسفر والترحال : مؤلفاتي : 1- 800 خطوة لرحلة سياحية ممتعة 2- 150 طريقة ليصل برك بأمك 3- أمي أنتِ جنتي 4- بنيتي لكِ حبي 5- مذكرات مدمن إنترنت

شاهد أيضاً

في رحاب المسجد

بيوت الله هي جنة الدنيا, وقصر السعادة, وملتقى العبد بربه, ومقر ثاني أركان الأسلام, فكيف …

2 تعليقات

  1. صدقت يمناك اباصقير ،،
    هذا فيض من غيض
    رحمك الله اباعبدالعزيز

  2. محمد صالح

    غفرالله له ورحمة وأسكنه فسيح جناته .. لأول مرة اقرأ لكاتب يمدح أحد ولا تجد فيه كذب او اطراء .. نعم جميع ما ذكره الكاتب هي خصال حميدة موجوده في المرحوم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.