رحل الشيخ محمد السحيباني (رحمه الله) وبقي الأثر
· توفي (صالح بن سلطان السحيباني رحمه الله) وخلف خلفه زوجته وأطفاله وأعماله الصالحة التي تبلل قبره بدعوات المسلمين كل حين.
· أرملته (رقية بنت ناصر السحيباني رحمها الله) حملت الحمل من بعده, حملاً ثقيلاً بزمن صعب, وهماً موجعاً لا يفرجه إلا إيماناً بقضاء الله وقدره وتوكلاً عليه.
· هذا الأيمان تتنفسه كل حين ويشعر به أطفالها من حولها فتذوقوه برداً وسلاماً بحياتهم, وتقوى وإيماناً في صدورهم.
· النهار في حياتهم يوم عصيب, شاق, عبارة عن سفر طويل يقطعونه من بزوغ الشمس حتى غروبها على رواحل الظروف التي قد يعييها بعض هجمات الزمن, خلال رحلة اليوم الطويل يتعب قلبها, وينشغل فكرها بمتابعة صغارها الذين يروحون كل صباح إلى مدارسهم, فتقسم قلبها بينهم مع قطع الخبز التي تلفهم لهم بورق صحائف الأمس (فسحتهم) التي لم تكن شيئاً مذكورا في ذلك الزمن بالنسبة لكل الناس, فكيف بمثلها وهي راعية الأيتام.
· تدير على رؤوس صغارها الشمغ وتحذرهم ألا يفكوا (الغلالة) إلا حين عودتهم من المدرسة, وتطلب منهم ألا يخرجوا من باب واحد وماكن ذلك ليغني عنها من أمر الله من شيء, ثم تودعهم وترمقهم من باب البيت حتى يختفوا عن ناظريها. ولكن لم يختفوا عن دعواتها.
· تتسلى بقية الصباح بلملمة أغراضهم المتناثرة هنا وهناك, وبقية ذكرياتهم التي رسموها في زوايا البيت بالأمس, يؤطر ذلك شيء من الماضي الداكن.
· حين الظهيرة يعود الصغار للبيت, وكلٌ منهم محمل بالأخبار عن حاله في مدرسته ذلك الصباح, وبسمع الأم الفريد تستطيع أن تسمع منهم كافة وفي لحظة واحدة, فصدر الأم قد أعطي قلوباً عدة بعدد الصغار في جوفها.
· المساء تشعل النار في وسط الحوش وتبدأ بصنع (المراهيف) لصغارها, تديرها علي ساعديها بمهارة وكأنها تحفز نفسها أنها تستطيع أن تقود سفينتها باقتدار وسط أمواج الحياة المتلاطمة, عين هنا على سطح التنور الساخن, وعين هناك ترمق صغارها من فتحة الباب التي لم تغلقه بالكامل لتراقبهم وهم يلعبون في باحة الحارة مع أقرانهم, فإن سقط واحد منهم حفته بالبسملة, وإن سجل أحدهم (هدف) رسمت في قلبها قصة لترويها له عند عودته عن براعته.
· فتياتها الصغار من حولها, تعلمهم , تلملمهم, تضاحكهم, تصنعهم على عينها بعد عين الله, وإن كان خوفها على الأولاد يأخذ بتلابيب قلبها, فإن خوفها على صغيراتها يشقي يومها وليلها, لولا أن من الله عليها بصبر جميل, وعظيم ثقتها بربها.
· عندما تضع السماء قرص الشمس في جيبها, تبدأ الأم بجمع شتات قلبها الموزع على أولادها, وتضعهم تحت جناحها لتحميهم من سكون الليل وظلامه, وتظلهم بظلال الإخلاص والفلق والناس.
· عندما ينهض الليل من رقدته ويلوح سواده في الأفق, تقف الأم بالباب لتصفق لصغارها ليعودوا ويستعدوا للصلاة.
· يتوافدون وقد زين الغبار وجوههم , وبعثر الهواء شعورهم, وتصبب العرق من جباههم, وبدت السعادة من محياهم. كان منظر السعادة يسعد الأم أيما سعادة برغم أن خلف ذلك مشقة الغسيل والتنظيف, ناهيك عن رهبة الليل لأم تدير شؤون أولادها لوحدها.
· بعد المغرب تجمعهم وتذكرهم بمراجعة دروسهم, وحالها كحال الأمهات في ذلك العصر لم تكن تقرأ أو تكتب إلا مايساعدها على إقامة صلاتها, وحفظ يومها, وإقامة ذكره في لحظاتها, ولكن حرص مجتهد وسعي متكل.
· تتفقد الحقيبة, وتصفف الدفاتر والأقلام, وتبحث عن علامة (صح) بين وريقات دفاتر فلذاتها فهي تعلم أنها شهادة بحسن العمل للواجبات, وبرغم أنها لا تقرأ لكن حفظت رسم كلمة (ممتاز) فهي دلالة التفوق للأبناء.
· ليل الشتاء ما أطوله على الأم المنكسرة, لا يؤنسها في تلك الليالي إلا صوت مطر فهو رحمة, أو نور برق فهو نور عزة الله وقدرته, أوصوت رعد السماء فيذكرها سبحان من سبح الرعد بحمده.
· ليال الصيف أخف من سابقه, فساعاته قصيرة , ولحظاته تمضيها وهي تتأمل وجوه أطفالها عندما ينعكس ضوء القمر على وجوههم البريئة فينشرح صدرها ويطمئن قلبها.
· وسادتها مخزن ذكرياتها, ومجمع دموعها, عليها تنوعت الدموع.. دموع فراق مر, ودموع دعاء مضطر بأن يحقق أمانيها بصغارها, ودموع الخوف من قسوة الحياة وخشيتها أن تهب عليها فتعصف بهم على حين بغتة منهم.
· صغارها هم صفحات ذكرياتها, فهذا ضحكته تماثل أبيه, وذاك مشيته كأنه هو , وآخر ينطق الحرف كما كان ينطقه رفيق الدرب, تبتسم معهم وتعيش بهم ولهم.
· كان دعائها أن يقر الله قلبها بصلاح أبنائها, وأن يجعلهم صالحين مصلحين, فكانت تحسب خطواتهم كل حين, بل تسعد أيما سعادة عندما تنقض غزل (خبان) الثوب الذي كف مرات عديدة ليستخدم سنين مديدة, فنقض الخبان معناها أن الأبناء قد شبوا عن الطوق وأنها قد وجدت سنداً بعد الله لها.
· هنا الأضواء تسطع على واحد منهم (محمد) , حيث عاد من كليته محملاً بالتباشير وبان من بين الأقران بالتميز والتفوق على كليته, وتم إختياره ليكون في مجال القضاء.
· (محمد) كان قد سبق بالفوز بثني ركبتيه في رحاب العلم, ومتع ناظريه بوجه عالم من علماء الأرض في وقته (محمد بن عثيمين رحمه الله). فنهل من معينه, ونال من علمه, وسكنت روحه بجمال أدبه, حتى صار أكثر الناس دلالة لشيخه بسكناته, وحركاته حتى يخيل للرائي أن التلميذ قد لبس عباءة شيخه بتميز تام.
· تولى القضاء بالبلد و عين بإمامة أكبر مساجدها , وعرف بلقب لا يعرف به غيره (الشيخ) فرغم تواجد المشائخ في البلد وطلبة العلم, ولكن إن قيل (الشيخ) فلا يحتاج لمن يعرفه أو يزيد عليه بأسمه.
· حباه الله جمال بالصوت, وبراعة بالخطابة, وبشاشة في المقابلة, ولطافة بالمعاشرة, فكان ينتقي من الجمال أجمله, وهديه في ذلك سنة نبيه محمد صل الله عليه وسلم.
· القضاء ومخالطة الناس تصعب على من يكون في بلده, ولكن بشخصيته المتميزة أستطاع أن يخط مساراً لا يستطيعه غيره, فلم يكن جافياً لمن لم يخالطه, ولم يكن محابياً لمن يحاكمه.
· دعوات الصالحة (أمه) ترافقه, ودموع من أحسن إليهم تلازمه, وإحسانه للأيتام والفقراء والمحتاجين تتكشف عنه مهما حاول ألا تعلم يسراه ماتنفق يمينه.
· يلاطف الصغير , ويمازح المسكين, ويرد على من يخبره بأمر مشين عن أحد من المسلمين بكلمة (الله المستعان .. عجيب) ولا يزيد عليها, إتخذ من حسن الظن منهج.
· نشأ (نحسبه والله حسيبه) في طاعة الله, تشهد له طرقات المسجد الذي اعتاد أن يذهب إلي ماشياً, يشهد له المحراب والمنبر, تشهد له الجموع التي تبحث عن محاضراته ودروسه .
· في رمضان حيث يتحول مسجده إلى خلية نحل, هنا تطعيم إفطار , وفي زاوية بعيدة أزيز مترنم بالقرآن, وهنا سائل يسأل عن أحكام الصيام, وهنا فقير يسكن محياه الخجل أن عاد للشيخ مرة أخرى وينتظر مع الزكاة الفرج, ومن بين الجموع شاب عصرته الدنيا بهمومها وينتظر دوره من أجل أن يستنير برأي الشيخ الحكيم.
· رمضان يتوافد على مسجده الجموع من البلد ومن خارجها, حديثه العشاء آية في الجمال, الكثير ممن يحضر حديثه يضع رأسه بين ركبتيه إما خاشعاً مع حديث الشيخ, أو منتقلاً من دنيانا إلى دنيا السلف.
· وكان في حديثه يسأل أحياناً تنشيطاً للحضور, وبث للحماس والسرور, وعندما يعجز الجمع عن الإجابة تأتيك كلمته التي ينطقها بجمال كما ينطقها شيخه ابن عثيمين عليهما رحمة الله …أجيبوا.
· كان أسلوبه القصصي بديع, والفقهي عجيب, ونقله لحوادث الزمن غريب, وسرده للسيره فريد, كلما إنتقل من فن إلى فن قلنا لم يأتي بما أتى به أحد. وأعلم أن البعض قد يحسبها مبالغة ولكن من حضر له يجد في حديثه بلاغة.
· قيام الليل في مسجده قد يبدأ أحياناً من 12:30 من المنتصف, ويستمر حتى قبيل الفجر, ويتخلله حديث يبني النفس ويعلمها كيف تكون في حياتها وكيف ستكون في مماتها.
· في العيد يكتظ مسجده في المصلين, تكبيراته تزين قلوب المصلين, وتسعد القادمين من خارج بلدتنا, كان علامة من علامات السعادة في أعيادنا.
· في طرفة عين, وعلى حين غرة من أنفسنا أتانا الخبر, أن الشيخ مات, وأن المرض الذي كان يتربص به قد نال منه ولم يمهله, وأن نفوسنا المشتاقة إليه قد فقدت أنفاسه وغابت عن عيوننا نور وجه. وقع الخبر على الجميع كالصاعقة, ولكن أمر الله واقع, وبالله آمنا وبه استعنا وصبرنا.
· سيفقد الشيخ طريقه الذي كان يسلكه مشياً من باب بيته حتى محرابه, ستفقده صدى الزوايا والتي اعتادت أن تردد خلفه تلاوته في صلاته, سنفقده خشبات المنبر والتي تنتظره كل جمعه ليقوم بالناس نذيراً وبشيراً, سيفقده يتيم منكصر ومحتاج مسكين وأرملة معوز, سيفقد شاب تاب على يديه وسكب العبرات بين يديه, سيفقده كبيرات سن ينتظرن رمضان تلو رمضان من أجل أن يستمتع بصوته وشيئاً من ذكريات (صديقتهن) أمه, سيفقده رجع المصلين حينما يقولون آمين, سيفقده إنسان أخطى عليه ثم استسمحه فوجده متبسماً مسامحاً له, سيفقده نور البدر والذي لن يجد من يتسحرون في الليالي البيض لمنتصف الشهر, سيفقد أناس قد كان بعد الله سبباً في هدايتهم وسبباً في توجههم ومات وهو لم يعلم عنهم.
· ليس نحن فقط من فقده, بل فقده كثيرون ممن وصلنا خبرهم وممن يكتمون حزنهم وبذله لهم, في أفريقيا سيرت حملات بإسمه بعد مماته وأسلم جماعات من أهل تلك القرى.
· الله المستعان حضرت صلاة الجنازة على الشيخ, ورددنا بصدق وإخلاص أن يبدله الله داراً خيراً من داره. وأن يجعل القبر روضة له من رياض الجنة, وأن يجعل الفردوس الأعلى منزلته ومستقره.
· نفضنا أيدينا من قبره ولكن بقي أثر السنين ساكناً في قلوبنا لم ينفض من قلوبنا, وتجمعت دموعنا تودع شيخاً طالما استجلبها خشية لربها.
· هل سمعتم أن بلداً بالكامل أصبحت عزيزة وأمست يتيمة, هذا حالنا تلك الليلة, رحم الله الشيخ محمد بن صالح السحيباني وجزاه الله خير الجزاء بالدنيا والآخرة.
جزاك الله خيرا .وصدقت وبررة .والله اني اقرء رسالتك
ودموعي تنهمر .فرحم الله شيخنا واسكنه الله الفردوس
…ان الكلامات والأحرف عاجزات عن التعبير لهذا الشيخ
الغالي في قلوبنا …فنسأل الله ان يرحمه وان يعوضنا
خيرا …فالحمدلله على قضاءه ..وشكرا اخي سليمان.
اخوك الصغير سعد البدراني .محافظة البدائع
رحمه الله رحمة واسعة وجزاك الله خير استادي الكريم
رحم الله الشيخ واسكنه فسيح جناته جزاك الله خيرا الأخ سليمان على ماقدمت ونفع بك
شكراً لك اخ سليمان على ما سطرت، وما زدت عن الحقيقة، وذلك لمعرفتي به بحكم قرابتي له رحمه الله، فجزاك الله عنا وعنه خيرا وجمعنا به ووالدينا وذرياتنا والمسلمين بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وسلفنا الصالح في جنات النعيم.
ابوعبدالرحمن – الرياض