رحلة الجمال في ربوع أبها

رحلة الجمال في ربوع أبها

قالت صغيرتي بابا : ثح اليوم متر
قلت و كيف عرفتِ ذلك يا جميلتي
قالت : أثوف الثماء ثحاب
قلت صدقت يبدو أن السماء ممطرة لا محالة

الترجمة لغير العارفين بلغة الأطفال :
قاتل صغيرتي : صح اليوم مطر
قلت و كيف عرفتِ ذلك يا جميلتي
قالت : أشوف السماء سحاب
قلت صدقت يبدو أن السماء ممطرة لا محالة

كانت هذه هي نشرة الأحوال الجوية التي سوف نعتمد عليها هذا اليوم  في رحلتنا , و هذا التقرير القصير عن حالة الأجواء هو الذي سوف يحدد مسار العائلة , شكرت الصغير التي أتت بهذه المعلومات من خلال النافذة الزجاجية , و بدأنا بالاستعداد لرحلة يوم جديد من أيام أبها . فكل الذي عليكم أن تحملوا قبعاتكم , آسف مظلاتكم و تلبسوا بعض الملابس الخريفية لتستمتعوا بهذه الرحلة الصيفية في الجبال العسيرية , و التي سوف تتراوح بين قمم الجبال العالية و قيعان الأودية السحيقة . بوصلة السياحة في ذاكرتي تتجه إلى نفس المنطقة التي أعتبرها كنز سعودي لم يعطى حقه من كنوز منطقة عسير وهي ” منطقة السودة  ” و كذلك المناطق التي تجاورها  . لتعيش بعمق أحداث هذه الرحلة . فكل الذي عليك الآن أن تأخذ نفساً عميقاً لتتمتع بصفاء الذهن , ثم تحرك مؤشر الفأرة ليتحرك مع الصور العديدة التي سوف أعرضها في هذه الصفحة . و سوف تجد قلبك يتحرك بنبضه مع جمال أراضينا البكر هناك…
 

 

نبدأ من أول الطريق فنعبر مساكن أبها التي بدأت تصطبغ بألوان جديدة , و يهيئ لي أن ألوانها دخيلة , فلا أعتقد أنها من ألوان تراث البلد , فترى البيوت بألوان فسفورية لامعة تبرق مع  شمس الصباح  ,  أو تتضح بصورة جلية مع قطرات مطر المساء .

 
 
تركت العمران خلف ظهري , و اتجهت إلى وجهتي حيث أشق جبال عسير العالية , و كان لابد أن أمر على الباعة في أول الطريق , و كل يوم لنا حكاية أو طلبات جديدة مع هؤلاء الباعة , اليوم لن أنتقد أحداً منهم أو أسألهم الكثير عن بضاعتهم , و لن أتناقش معهم عن الأضعاف المضاعفة لسعر الحبة الواحدة من الفاكهة , لا …بل سوف ألتقط صوراً عدة لهم , و سوف آخذ حاجتي من تين البلدة , و أذهب في طريقي ثم ألوم نفسي لماذا لم أشتري من وسط المدينة ؟! فأسعارها أرخص , و تنوعها أكثر .

الفكهاني ينشر فاكهته بمنظر جميل , تجعل قائد السيارة ينحني بسيارته بشكل لا إرادي , فالفواكه رصت بسطور متجاورة , و كل سطر يشكل فاكهة معينة , و كل فاكهة تشكلت بشكل حلقة جميلة تمثل حاويتها البلاستيكية . هذه الفواكه قد تبللت بقطرات من المطر الذي يزور لمنطقة كل حين , فيسقي مدرجات المزارع و يبلل سطول الباعة .

بجانب بائع الفواكه , رصت صناديق التمر ”  البلح أوالبسر  ” لتعرض فاكهة الصيف المفضلة . البرحي تم جلبه من مناطق نبته . فهو يتبختر على كافة الصناديق التي بجنبه , بطعمه الحلو و بمذاقه الرائع يجعله محبباً للزبون و مقرباً لدى البائع . و يجلس بجانبه و على درجة مقاربة منه تمر ” الروثانه ” الذي ظهر بين الاستواء و البلح ” يطلق عليه منصف فنصفه رطب و النصف الآخرلازال بلح ” فهو بمذاق مغري رائع يجمع بين طعم البلح و النضوج . هالني من أمر باعة التمر أن التمر بالكيلوا , و بينما في مناطقنا يعرضونه بالكرتون أو بالسطل , فأخذت حاجتي و صمت فقد تذكرت أنني لن أناقش أي أمر . و لن أذيع أي سر …و لن أقول أن السعر مبالغ فيه فوق ما يتصور العقل …

وعلى مقربة من هؤلاء الباعة تتسلل إلى أنفك رائحة الذرة المشوية , فتلتفت ذات اليمين لتجد الذرة الخضراء قد صفت  في كؤوسها الملونة , فكأنها تسحرك بجميل تناسق ألوانها , و يقف بجانبها صاحبها الذي لا يمل و لا يكل من إيقاض سبات جمر ناره , فالجمر بين ثلاث نيران , بين ناره التي تتقد من تحته , و نار قطرات المطر التي تتساقط عليه كل حين فيخمد , و نار صاحب المحل الذي لا يرضى أن يبات جمره أو أن يأخذ أي أغفاءة فالزبائن بإنتظار اللذيذ من شوائه . و هكذا حياته تتجمع قطرات السماء فتختار تلك الجمرات الحمراء فتسقط على رأسها فتصمع صوت تشتشتها , فينبعث دخان يتطاير في السماء و من ثم يختلط بالغيوم ….و البائع عين على الشواء و عين على المارة لعله يقتنصهم عبر عرضه الذي يقدمه وسط الأجواء الممطرة .

و من خلف بائع الذرة هناك محل مستلزمات البرية , و رجل قد أخذ نصيبه من زبائنه , و بعد أن رحلوا أخذ ينظم بضائعة , و ينتظر الدور على من يأتي فيعلقه في حبل المشنقة !!

 

تشكلت السحب و رسمت على الأرض ظلالها , فكأنها تفرش الظل للسياح ليختاروا أجمل مناطقها .
 

رأيت طريقاً جانبياً يمرر المارة إلى قرى مجاورة , كتب باللوحة قرية ” العكاس ” و باللوحة التي بعدها ” وادي الطالع ” , وكنت قد وضعت في حساباتي أن الزيارة هذا اليوم هي لبعض القرى التي تمر علينا في طريق السودة , منها هاتين القريتين ….
 

تعرج الطريق ثم سلكت تحويلات أخرى , و أخذت منحنيات و مرتفعات , حتى وصلت منطقة كنت أعرفها من قبل , إنها قرية البادي و سد عشران , بيوت أثرية , سد مشيد , مزارع بشكل مدرجات مهجورة . 

 

وقف السد كأنه ينتظر السيول التي  تأخرت عليه هذه السنة , ثم أتته مقبلة في موسم لم يعتده , و لكن لم يحتفظ بالكثير من ماء الوديان , و ذلك لأن الأرض العطشى بللت ريقها بالكثير من أمطار السماء قبل أن يصل السد الذي ينتظرها . فلم يتبقى من مجاري الوديان مجتمعة و مصاب الجبال العالية إلى الشيء اليسير , ففرح به السد فأحاط به من كل جانب فكأنه يعانقه و يحتضنه .
 

يوصل لهذا السد ممر خرساني زين بأشجار تميل على أطراف الممر و كأنها تطلب الماء من المارة , و تستغيث بهم من جفاء السحب العابرة .
 

من هذا المطل تظهر آثار أناس سكنوا تلك الديار , أناس أقاموا هناك أعوام , زرعوا جبالها , و أقاموا دورها , و رعوا أغنامهم  في وديانها .
أناس كانت لهم في تلك الأرض ابتسامة , و على مدرجاتها سعادة , وبين أشجارها ذكريات عامرة .
 

نضبت الآبار , و جفت الأرض من الأمطار , و وقف السد في سبيل سيل الوديان , و لم يبقى لأهل تلك الديار مقام , فتركوا بيوتهم , و هجروا مزارعهم , و استوطنوا المدن . 

 البيت المهجور يسكنه الصمت , وتحيط به الأشجار المخيفة من كل جانب , و لا سائل يسأل و لا حبيب يزور .

 

 الجبال واقفة بشموخ , و الشمس تزور ذلك الوادي فتدخل المنازل فتتفقدها عبر نوافذها التي أخذت تتسع مع الزمن , و الرياح تعبث بأبوابها حتى أصبحت مسندة على جدرانها , ورغم البعد و الفرق و لكن لم تيأس تلك الأبواب . فهي تفتح ذراعيها و قلبها لزوارها بعد أن تركها أهلها و ساكنيها …..
 

 

 بقايا من بقايا أناس قد رحلوا , و جدار هده الحنين لأهله , و أحجار تماسكت لتشد عضد بعضها و تصبر نفسها , و ثقوب تتسع بين جدرانها و تتحين نظرة لمن كان بالأمس يتقلب في كبده .
 

في جانب غير بعيد من ذلك الوادي , رقدت قرية عكاس , و هي تنظر إلى مدرجات الجبل , و تشرف على ممر الوادي الذي يكاد أن يندثر . و من سفح الجبل إلى منتهاه أقيمت المدرجات التي تمسك المياه , و تزرع على طول السنة . و لكن هذا الحال تبدل و تحول , فقد أصبحت الزراعة آخر أهتمام أهل أبناء البلد الجدد, فالمدن قد أخذتهم بين أطرافها , و المكاتب قد ضمتهم إلى قلبها ….
 

 

فغدا الآباء وحيدين بين بيوتهم المعمورة و ممرات مزارعهم المطمورة . فيوماً بعد يوم أصبحت الزراعة بالمدرجات أثراً بعدي عين .
 

إلا من القليل المدرجات المتناثرة هنا و هناك , تنشد من أهلها الحياة . 

 

 الأغنام تغير عليها الحال , و أصبحت تتنقل من مكان إلى مكان لتبحث عن المأكل , و برغم قلة الموجود , و لكن الله قد تكفل  برزقها . فتجدها تجمل المكان بحسنها و تنشر الفضاء جميل ثغائها , و أصبحت رسمتها المتحركة على العشب الأخضر هي أجمل منظر .
 

و أنّا تلتفت في جبال عسير تجد قرية جديدة , أو مباني قد شيدت لتكون قرية تسكن رؤوس جبالها العالية . و على جانب آخر قرية قديمة قد هجرت فصارت بعداد النسيان ….
 

 

و بعضها قد جاور القرى القديمة , و تخلوا عن مبانيهم ذات الطراز الفريد , و سكنوا أماكن صممت لتحميهم من شديد برد المنطقة , و تكفيهم من شديد أمطارها الموسمية .

 

رغم ذلك … وقف الطراز القديم شامخاً بوجه التغيير , وشاهداً بدورٍ ذو أثرا في قلوب أهل البلد . يسحر الجميع بتفاوت مناراته , و علوا حجراته , و تشابك جدرانه , و جمال سبك أحجاره , و وارف أشجاره . لقد وقف بنوافذه الأنيقة التي تطل على تلك المدينة الجديدة , ليذكرهم بمآثره , و ينبه ابناء تلك البلدة بمدى صبره في وجه الحياة العصرية الجديدة , و مدى تعلقة بماضيه الذي رسم فيه كلوحة فريدة في عالم يعشق التجديد و ينسى كل ماضي أصيل .
 

تشرف تلك البيوت على وادي يمر من تحتها , و يزرعون جانبيه أهل تلك البلدة , و تطل تلك المساكن على ساكنيها الأول عند عبورهم في ذلك الوادي , و تطمئن عليهم عند مرورهم على تلك المزارع , و تنظر إليهم عند  تجولهم بين أشجار حقولهم , أو عندما يقضون وقتهم وهم يرعون أغنامهم . 

 

 

عندما تقلب بصريك في تلك البقاع و في نواحي شتى من الجبال يتجسد جمال العمران في أكثر من مكان , و إن كان يعيبها أن الزمان قد اختار أهل تلك البيوت و فرق بينهم و بين مساكنهم , لكن تجد لحظات وفاء , فإن أشجار التين الشوكي لم يرضى بتلك الحال و أحزنه ألم الفراق , فأختار أن ينبت على رأس ذلك الدار فكان على رأسها كالتاج. يعيش في أعاليها , و تنبض  جذوره بين رمال سطوحه , و حين يكتمل نمو ثمارها . فإن ورقة ثمره تتشكل كيدٍ بأصابع ملونة تلوح  إلى المارة في أودية تلك البلدة الهادئة .
 
إن ألوانها المختلفة تظهر على صفيحة وريقاتها . بدءاً من بداية نموها حتى تحين ساعة قطفها , فهي تمثل عمر ثمرتها , و ثمرة فلذة كبد بلدتها أبنها الذي تركها وساكنها الذي هجرها . و حتى ألقاكم في تكملة هذا الجزء …لكم تحياتي

نسيم نجد
www.naseemnaj.com

روابط بقية الحلقات :

الحلقة الأولى

الحلقة الثانية

الحلقة الثالثة

الحلقة الرابعة

عن سليمان الصقير

محب للسفر والترحال : مؤلفاتي : 1- 800 خطوة لرحلة سياحية ممتعة 2- 150 طريقة ليصل برك بأمك 3- أمي أنتِ جنتي 4- بنيتي لكِ حبي 5- مذكرات مدمن إنترنت

شاهد أيضاً

الحلقة الأخيرة : صور من أبها خير من ألف ألف حرف

الحلقة الأخيرة   اليوم الأخير كان عبارة عن رحلة مطولة لأماكن شهيرة لأبها البهية , …

تعليق واحد

  1. ما شاء الله

    ابها حلوة واجد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.