الحلقة الثالثة : رحلة نسيم نجد النهرية في مدينة الأحلام الرومانسية – ستراسبورغ الفرنسية –

نهاية رحلة النسمات النهرية

 

يقول جبران خليل جبران : ” إنني سائح و ملاح في وقت واحد.. وفي كل صباح أكتشف قارة جديدة في نفسي ” و بالفعل هذا الذي يحدث معي… إنني أجد نفسي في كل لحظة…و أكتشفها من جديد…فعندما أكون في سفر و لوحدي ..فإنني أتفرغ لها …و أقترب منها أكثر …و أعرف مكنونها …و أسبر أغوارها…هناك… أو في أي بقعة من بقاع الأرض أوفي أي ظرف من ظروف المعيشة…فعندما أكون بين الناس أو وسط الغابات أو عند مصاب الأنهار …أو حتى على السرير في غرفه الفندق و كذلك حتى في غرقة النوم… فإنني أكتشف شيئاً غائباً عني أو أجد شيئاً جديداً من خفايا النفس…بل يحدث أكثر من ذلك …فإن نفسي تتصور حالها في بعض المواقف مع مايناسبها من ظروف الزمان و المكان …مرة وهي تتأمل أن لو كانت في هذا الموقف مع أعز أصدقائها… و مرة في سياحة مع أحب الناس إليها… و مرة لوحدها و هي تتسلى في خلوتها…لذا قد يجد القارئ لهذه اليوميات و السفريات شيئاً من العَجَب من شخصية هذا الكاتب و طريقة سفره …كيف يحلو له أن يسافر وحيداً فريداً و بدون أنيس أو صديق أو رفيق ؟…ثم يأتي و على مشهد من الناس و يترنم بسفرته بفرح وسرور…يجهلون أنني لست لوحدي …بل أن معي كل من أحب في رحلتي…فإذا كنت ممن وصل إلى هذه النقطة …فأنت ممن أحب…فهل ترافقني ؟…

 

اركب معي مركب الأحلام …و تأمل أنك برفقة هذا السائح غريب الأطوار…و أقرأ بخيالك و اسرح بعقلك مع الحروف و تجول بعينيك عبر هذه الصور…و تخيل أنك تعيش في ذلك البيت المعمور…و لك شرفة تطل على النهر..و تستمتع بما زرع من حوله من العشب و الزهر..و بين يديك قهوة الصباح تنشر عطرها الفواح…هل هناك أجمل من هذه الأحلام الوردية…وهذا الجمال الأخاذ وتلك النسمات الرطبة و تلك الأشعة الدافئة …عفواً صديقي استيقظ …لأنك بأرض الأحلام وهناك ألف عنوان لمشاهد الحسن و الجمال … فحدائق الأحلام في موضوعي كثيرة .. 

 

عد بخيالك مرة أخرى ..و بوقت آخر… ومكان آخر…إلى حيث وقت غروب الشمس في تلك المدينة …عندما يصطبغ الكون بحمرة الشفق…و تدنوا أشعتها من مسقط الأفق…و تبدأ أنوار الفوانيس ترسم لوحتها على صفيحة النهر…و النهر بعمل مستمر لغسل هموم البشر… فهيا اسرح بعيداً ..و تمنى الأماني …فهل تتمنى أن تكون هناك و على تلك السفن الراسيات …حيث المطاعم تزدحم و تستقبل أصناف البشر…و ترحب بالعشاق و تأنس بالمحبين و تطرب بالمتأوهين الهائمين….أدخل في زحمتهم…و سجل نفسك معهم …و من ضمن المحتاجين لشفقة من حولهم..و اختر طاولة صغيرة عليها وردة جميلة …ثم أجلس وحيداً لتأخذك أفكارك بعيداً…حيث أناس تتمنى أن لو شاركوك تلك اللحظات …عش لحظات جميلة من حياتك القديمة…و عندها سوف تعلم أن عبق الماضي قد يفوح بالمستقبل …و عندما تنهي من صفحات الذكريات…سجل في سجل أيامك تلك اللحظات … ثم أخرج من ذلك المطعم و أبدأ بجولة عبر أزقة المدينة …و لا تكن لوحدك حتى و إن كنت مثلي لوحده…بل تصور حياتك مع من يأنس معك…ويسر برفقتك… 

 

هناك وفي تلك البلدة… منية المريدين …و غاية العاشقين …فجمال أرضها و صفاء جوها و عليل نسماتها و جميل مناظرها تجعلها أرض مناسبة لزراعة آمالهم…و مناخاً ملائماً لبذر حبوب عشقهم…و لحظات عامرة لبدأ حياتهم …إنها أرض مناسبة لمن أراد أن يقضي شهر عسله… أو أراد أن يجدد حياته مع شريكة عمره …أو أراد أن ينعم بحياة شاعرية رومانسية جميلة…حيث هناك الهدوء الناعم..فلا صوت إلا أصوات الطيور وحفيف الأشجار وتدفق الأنهار و همسات النسمات…ولا لمس إلا لمسات قطرات الندى أو بضع من قطرات الممطر …هناك الدفء حيث لا شيء أجمل من شعاع الشمس و ضوء القمر و دفء من حبه بالقلب استقر ثم أخذ بالجسم ينتشر..هناك الروائح الزكية تنتشر عطور فرنسية أريج زهور ندية…هناك كل شيء يبعث بالصفاء فإن نظرت إلى الأرض فالنهر و ورق الشجر و إن رفعت البصر فالسماء و السحب البيضاء …هناك الألوان ترسم لوحة الجمال في كل مكان…ألوان الزهور ألوان الدور ألوان المحلات التي تتخذ من كل مكان وزاوية مستقراً و من جمالها يشع بالنور…للمحبين مع النهر قصة وحكاية ورواية….فتجدهم بجانب النهر…و قد وضع يد بيد شريكة العمر…يمشيان و يتهامسان و يضحكان…قهقهات و حكايات و ذكريات…حديث حب… و نظرات عشق …و كلمات غرام…ثم يقفان لينظران لصفيحة النهر فيجدان أن الشمس و القمر قد اجتمعا في سمائه …العاشق و المعشوق قد بان وجهيهما في لوحة رسمتها القطرات على مائه… 

 

و في لحظة …تمر نسمة فتسقط ورقة من غصن شجرة فتهتز الصورة…فتتبدد ملامح وجهيهما من على تلك اللوحة…ثم تعود صورتهم بالتدريج حتى تصل إلى الكمال من جديد… فيبتسمان على ظهورها مرة أخرى…و بحركة سريعة يأخذ الحبيب حصاة …و يلقيها بسرعة على صورة عشيقته في النهر…فتتناثر صورة الحبيبة كما تتناثر قطع الزجاج المكسورة….تنظر إليه الحبيبة بائسة حزينة متعجبة…لماذا يا حبيبي…فيقول : عذراً حبيبتي إنني أغار أن ترسم صورتك في غير عيني.. و أحزن أن يرى أحد ابتسامتك غيري….فتضحك الزوجة فرحة فخورة ..فلا تسعفها الكلمات..إلا بابتسامة ممزوجة بدمعة…ثم تتبعها بكلمة واحدة تتذكرها الزوجة دائماً في حياتها حتى في أصعب المواقف لها…هل حقاً تحبني ؟..و لا تنتظر جواباً …فقط تنتظر أن يبتسم الزوج ليعلن أنه لازال على العهد …و لكن كعادة الرجال… لم يكن جوابه مباشراً بل ترك زوجته لتكتشف ماخلف ذلك و أجمل من ذلك…فقال إن أوفيد يقول : ” الحب و السعال لا يمكن إخفاؤهما “ …ثم كح …كحة بسيطة ليثبت المقولة…فيضحكان ضحكة عالية تبتسم لها البلدة…و تأخذهما النشوة مرة أخرى…و تعود أشياء كثيرة لحياتهما..و أجملها الابتسامة و فخرهما ببعضهما… يمشيان في أزقة المدينة القديمة …و على حجارتها المرصوفة… فتتراقص أجسامهما مع ارتفاع و انخفاض الحجارة في طرقاتها… 

 

و يمران من جانب أحواض الزهور …فيأخذ الزوج وردة حمراء ندية فيقدمها لعشيقة العمر..و يقول عذراً أنت أكثر جمالاً منها لكن… هل تقبلينها حتى تسعد الزهرة ؟…تأخذها بيدها وترسم علامة القبول على وجهها…و كماهي الغيرة في المرأة…تبدأ تبحث عن وردة بيضاء نقية و تقدمها لشريك عمرها..فيأخذها بعزة و يشمها بقوة …و يعلم أنهما في لعبة الكراسي الموسيقية و أن الدور عليه و يجب أن يرد الدين بكلمة … أو كلمات.. يقول بضحكة لعوب…زوجتي هل تعلمين أنك لو غمست أصبعك بالنهر لأخذ طعمه العذب بعض ملحك….و لو غمستيه في البحر لأخذ طعمه المالح بعض عذوبتك …و لو مررت من جانب الحقول لترك النحل رحيق الزهور و قدم إليك…و لو عبرت من جانب الزهور لحلقت الفراشات من حولك…صرخت قالت يكفي …يكفي….ثم هو كعادة الرجال لا يمكن أن يكملوا باقي كلماتهم الرومانسية…فيتبع… بخبث ودهاء ما رأيك أن نجرب ونغمسك بالكامل في وسط البحيرة لنثبت للعالم أنك عذبة…تتظاهر بالغضب وتخفي بقلبها الفخر… أمسكت يده بقوة…كأنها تريد أن تصل إلى قلبه عبر يده…أو تريد أن تسمع خفق قلبه…أو تريد أن تتحسس أنها بعالم الرومنسية و ليس بعالم الأحلام الوردية…أو تريد أن تبدد قلقها في غربتها…أغمضت عينيها قليلاً…و سرحت بعيداً…و تأملت كثيراً…وفتحت عينيها على لوحة تعرفها…إنها اسم محل يعجبها لأحد الماركات العالمية لأشهر الملبوسات…فقالت : لزوجها ما رأيك أن نتجول في ذلك المحل…فنظر الزوج بنظرة ملؤها الحسرة…ثم قال : لقد ودعنا الأسواق في دولتنا …فهل نتتبعها هنا ؟…ثم أتبعها بكلمة أشد من أختها…رجاءً لا أريد أن تضيع أوقاتنا خلف تلك المحلات ؟!…فقالت لكن أريد أن أتبضع …فقال : أنتم أيها النساء لا تملون من الأسواق..فتعالت الأصوات و بدأت سحب النزاع تظهر…و بوادر نقاش حاد يبدد ملامح السعادة التي على الوجوه رسمت من قبل…فاليدان تتحركان بشدة …و الأصوات تعلوا في بقوة.. فحانت لفرصة …أن يكون للمثل الدنمركي موقعاً بينهم …وهو الذي يقول : ” إن السعادة والزجاج …ينكسران بسهولة “ … 

 

و فجأة يشعران بلمس رقيق …ينظران فإذا هو طفل صغير يقف بينهما…عيناه زرقاوان…و شعره ذهبي كأشعة الشمس….و وجه مضي…و هو يناديهما و يمد يده لهما ليعطيهما زهرتيهما التي سقطتا أثناء شجارها…أخذا الزهور…و هدأت النفوس…فعلما أن الحياة جميلة و أن أقل كلمة قد تهدم كل لحظاتنا الجميلة …إلا أن تنقذها ذكريات مع المحبوب قديمة…تبسما …و شكرا الطفل وأمه التي ترقبه من بعيد…و استمرت الحياة بنبضها المحبوب من جديد…ولعل المثل الياباني …قد كان هو غطاء لتلك الحالة التي ظهرت فجأة ثم اختفت فجأة …  فيقول المثل :” إن السعادة هي صحة جيدة وذاكرة سيئة “ … لعلي خرجت عن الموضوع …و لكن المقصد أن الحياة متكاملة و أن السياحة جزء من حياتنا بشكل عام…فأريد أن أقول : أن الحياة قد تعصف بها رياح المشاكل الحياتية…و تسعفها بعض اللحظات الرومانسية التي نقدمها لمن نحب في وقت الرخاء…ومن ضمنها السفرات السياحية…والرحلات الموسمية…لذا عش بكامل لياقتك الرومانسية في تلك البقع التي تشجع على تلاقي أرواح المحبين…و أزرعا شجرة حبكما في صفحات الأيام …و أرميا كل بقايا الأحزان …فالحب و السعادة هي من يملأ النفس بالسكينة و هي مصدر للطمأنينة…فإذا كنت الطبيعة ساحرة بجمالها…فالمحبة أجمل منها و أقوى…يقول جبران خليل جبران : ” تأملت في الطبيعة ملياً فوجدت فيها شيئاً لا حد له و لا نهاية ..وشيئاً لا يشترى بالمال …شيئاً لا تمحوه دموع الخريف… ولا يميته حزن الشتاء… شيئاً لا توجده بحيرات سويسرا و لا منتزهات ايطاليا …شيئاً يتجلد فيحيا في الربيع ويثمر بالصيف …وجدت فيها المحبة ” …دعوني أعود لرحلتنا النهرية…و بعيداً عن الأجواء الرومانسية التي قد تحرك الأحزان في قلوب العزابية… 

 

في صبح باكر كنت الحياة مليئة بالحيوية و النشاط…وكل حين نجد من أمثال هؤلاء الصغار وهم يبحرون بقواربهم الصغيرة عبر القنوات التي تدور على المدينة..أنظر ليهم بعجب و تعجب…إنهم يجدفون وبسرعة…و يتسابقون و بحميمية…و يتنافسون و بقوة…فتذكرت الكثير من أطفالنا وسوء حالهم…وكيف أعمتهم شاشات الرائي من كثرة ما يستخدمونه خلال يومهم…من صبحهم حتى مسائهم…فمن شاشة الألعاب الإلكترونية إلى شاشة الكمبيوتر إلى شاشة التلفاز إلى شاشة الجوال إلى شاشة ألعاب اليد الخفيفة…لا حول و لا قوة إلا بالله …فمن أراد في بلادنا التجارة الرابحة …فعلية أن يفتح مشروع مجمعات طبية لعلاج الأمراض البصرية فسوف يصبح في يوم وليلة أغنى من بل جتس..و ذلك من كثرة التسمر أمام الشاشات…و أضف إلى ذلك من يفتح عيادة أسنان فسوف يكون بنفس المقام…لما للحلويات من أثر على الأطفال في تلك البلدان…أعتقد مشروعان ناجحان…أعتقد أنه يكفي ما أورته لكم من نشرة عن الاستثمارات الاقتصادية في البلدان الخليجية… 

 

نعود إلى تلك الرحلة …نمر على الكثير من المعالم…و كان الناس ينظرون إلينا و ننظر إليهم ( سبحان الله معلومات مفيدة ..رايح لفرنسا علشان تجيب هالمعلومة )..فتجدهم في أماكن عدة …و بقاع متفرقة …فوق الجسور و القلاع و القصور و الدور… 

 

واقفين أو سائرين…( معلومة ثانية ) 

 

أو في سبات سارحون أو بغفلة يتأملون ..أتساءل ..بماذا يفكر صاحب اللبس الأبيض من الجانب الأيسر..وماذا تخبئ تلك النوافذ من ذلك المبنى المخطط بألواح الأخشاب..سؤال قد يراه البعض غريباً..لكن بالنسبة لي أعتبره حالة من التأمل المحبوب إلى نفسي..أن أجلس في وسط هذه القنينة الزجاجية…و تتحرك بي في عباب النهر…و أسرح بعيداً …حيث أدخل إلى عقول الناس الواقفين…و أخترق المباني و المقاهي المصطفة…و أتحسس عن بعد كيف يعيش الناس هناك ؟….أو بمعنى أصح أرسم صورة خيالية لكيفية المعيشة هناك..هذا خيال أحبه…أو أجد فيه محبتي القديمة للرسم..و لكن بطريقة أخرى..و هي أن أرسم في الهواء رسمة لما أخفته عني المباني..أو بمعنى آخر أن أرسم في لوحة الفضاء لوحة خيالية ولكن بلا ريشة….بل استخدم أدواتي من الطبيعة أرسمها على الفضاء الرحب من حولي…لعلي أتوقف هنا ( بدأت حالة ظهور ” المتخرمات “و هي تطلق على أي صورة قد يعتبرها البعض ضرباً من الجنون…مافات لا يعتبر حالة دائمة مستعصية بل هي حالات مؤقتة تمر على الكاتب فتمر و لا تضر ) 

 

عندما تجري بك السفينة من تحت بنايات عملاقة و كبيرة ..فأنت تنظر إليها بصورة جديدة…فالمركبة تسير …والنهر يجري… وأغصان الأشجار تتحرك …و السحب من فوق كل ذلك تزحف …كل شيء فيه حياة وحركة إلا البنايات فهي ثابتة راسية غير آبهة بمن حولها …مع مثل هذا المنظر يخيل للرائي أنه ضعيف جداً أمام تلك البنايات و أنه صغير جداً في هذا الكون العظيم…سبحان الله العظيم 

 

مررنا بجانب معالم كثيرة و مباني عظيمة…و من ضمنها هذه المباني المرتفعة..و التي تحتها ممرات مائية كثيرة..ومن فوقها أناس مصطفين…و على جسرها وقفوا يتأملون…فعلمت فيما بعد أنه سد المدينة الذي يوزع المياه بين القنوات..و من تحته سجن قديم قد استخدم فيه أشكال التعذيب… 

 

 

 

 

 

هنا و من حول السد توجد قلاع و سجون..و تعتبر من معالم المدينة البارزة…زرتها عبر السفينة المبحرة…فلما انتهينا من رحلتنا..أخذتني نفسي بالعزة..و الغرور بالنشاط و القوة..فقلت الزيارة… الزيارة…للقلعة العالية…فهناك الآثار …وهناك حيث ترى من المطل الديار …و تشاهد تفرعات الأنهار…

 

عبر طريق مرصوف بالحجارة سلكت الطريق البعيد من أجل الوصول إلى تلك القلاع و الحصون و السجون ..بانت لي أحداها…فصرت أبحث عن أختها.. 

 

فوجدت القلعة الأخرى…و اقتربت أكثر و أكثر فوجدت الجسر الذي يربط بين القلعتين..و من فوقه الناس كما رأيت في السفينة من قبل يعبرون بين القلعتين… 

 

و من حولها بحيرة عظيمة…على أرجائها مباني جميلة… 

 

عبرت إلى الضفة الأخرى عبر جسر يؤدي إلى القلعة..ونفسي تتوق لتلك الشرفة و التي سوف أكشف من خلالها تلك البلدة… 

 

اقتربت من القلعة حتى وازنت بعض الكتابات ..فلم القي لها بالاً…و بحثت عن سلم الصعود..و بدأت أقفز بحيوية و صحة و نشاط..فأحسست بأني رجعت إلى الوراء كأني بسن الشباب…و بعد منتصف الطريق أحسست بالضيق..و أن العزم قل و أن الجسم كل و أن الصدر من هذا العناء مل..فبدأت أفكر و أفكر و أفكر هل أتراجع أم أصبر..فتحركت بنفسي التساؤلات ..كم سيلقي عليك القوم ممن حولك من النظرات واللوم…و كم سأفقد بنفسي ثقتها و أخاف أن أثبطتها و أقلل من عزمها..شحذت الهمة..ونظرت إلى الدرجة..و بدأت من جديد المسير و قلبي يكاد من تسارع النبض أن يطير…و لكن هو العراك مع الفشل أو النجاح.. 

 

و فعلاً صعدت و للقمة وصلت…فعندها نسيت كل تعب..و تراءت لعيني أجمل المناظر…هواء لطيف منعش جميل…و بلدة صغيرة رائعة بديعة… 

 

جسر ممتد قد غطيت أطرافه بالعشب..و أحيطت حدوده بالسياج الحديدي…نظرت إلى المدينة من مشهد علوي…يصور لك تلك المدينة كصورة مجسمة…التقطت صورة بانورامية للمدينة من تلك القلعة القديمة…و سجلت نفسي كجزء من تلك المناظر الرائعة…فأخذت أتجول ببصري بماحولي من البقاع…فكانت هي تستحق أن أقدم إليها بل أن أكون جزءاً منها.. فالأديبة بيرل بك تقول : ” لا تنتظر من الربيع أن يزورك و لكن كن أنت جزءاً منه ” 

 

أنهار تخرج من تحت تلك البناية….فتسيل مكونة بحيرة عظيمة…ثم تتوزع بشكل قنوات صغيرة…فتخترق أجزاء المدينة..و البيوت تنتشر في كل مكان ..في وسط البحيرة…و بجانب القنوات..و على الأجزاء اليابسة من صغيرة… 

 

تقبع البيوت الزاهية المنمقة المتراصة…فمنها المباني القديمة…و القصور الفخمة…و العمارات الجديدة…و المباني الأثرية…و يفصل بينها طرقات مرصوفة بأحجار مصقولة… 

 

و بين كل تلك المباني و الطرقات و القنوات و الأنهار تنتشر الأشجار و الأزهار…تبث بالكون الحياة…نزلت من الدرج..وودعت خلفي منظر البلد…و كل درجة أنزل معها …تثبت صورة في قلبي …و تزرع حزناً على وداعي…طرقات حذائي تعزف عزفة أعرفها ..إنها عزف الوداع …فهي بنغمات بطيئة …عبر صوتها تخف وطأة التعب ويزداد من النفس العتب … 

 

يداي تمسكان بمحزم الدرج…فنزلت بهدوء…حتى وصلت البوابة الخارجية…وعليها باب حديد من أبواب السجون…خزنت تلك المشاهد في سجن ذكرياتي…قادتني خطواتي إلى أزقة المدينة مرة أخرى…و أحسست بأن خطواتي بالمدينة أصبحت معدودة..و أن دقائقي محسوبة..ونبضاتي محدودة….لقد أتيت لأبحث عن ذلك الغائب الذي يعذبني..فوجدت نفسي قد أصبحت أكثر عذاباً من ذي قبل…فهي تتعذب من حاضر يسكنني … 

 

ومع هذه الورقة الأخيرة أقول لكم : تحياتي لكم جميعاً …و أتمنى أن أكون وفقت بنقل صورة بسيطة عن تلك المدينة…أقرءوها..و أعذروني فرغم ثنائي لها …و إعجابي بها…ومحاولة تسطيري ما يليق بجمالها …فإني بعجز عن مدحها بمايوافق حقها… ولقد حاولت أن أرسم زهرتها …ولكن قد أنطبق علي ” المثل ايطالي : نستطيع رسم زهرة و لكن من أين نأتي بالرائحة “ …و اليوم و في الختام …فليس أمامي إلا أن أتناسى حبها…و أن أحاول أن أتأقلم على بُعدها…و أدعي بأن نفسي لا تغار إلى من ينظر إليها… رغم أن إعراضي و إغماضي عنها لا يزيل مافي القلب من الحب لها..فكما ” يقول مصطفى محمود : ” الحب الحقيقي لا يطفئه حرمان …و لا يقتله فراق …و لا يقضي عليه أي محاولة للهروب منه… لأن الطرف الآخر يظل شاخصاً في الوجدان “ … لقد حاولت أن أهرب من عشقي …كهروب ذاك الشاعر عندما بدل بلسانه صدق المشاعر : 

أقول أمام الناس، لست حبيبتي        وأعرف في الأعماق كـم كنـت  كاذبـا
وأزعتم أن لا شيء يجمع بيننـا           لأبعـد عـن نفسـي وعنـك المتاعبـا
وأنفي إشاعات الهوى.. وهي حلوة        وأجعـل تاريخـي الجميـلَ خرائبـا
وأعلن في شكلٍ غبـيٍ، براءتـي          وأذبـح شهوتـي.. وأصبـح  راهبـا
وأقتل عطري عامـداً متعمـداً            وأخـرج مـن جنـاتِ عينيـك هاربـا
أقوم بدورٍ مضحكٍ.. يا حبيبتـي          وأرجـع مـن تمثيـل دوريَ  خائتبـا
فلا الليل يخفي – لو أراد – نجومَهُ     ولا البحر يخفي – لو أراد – المراكبا

آمل أن تكونوا قد قضيتم معي وقتاً ممتعاً ..كما استمتعت أنا برفقة ردودكم الرائعة …
إلى اللقاء أصحابي…
نسيم نجد

www.naseemnajd.com

رابط : الحلقة الأولى

رابط : الحلقة الثانية

رابط الحلقة الأخيرة

عن سليمان الصقير

محب للسفر والترحال : مؤلفاتي : 1- 800 خطوة لرحلة سياحية ممتعة 2- 150 طريقة ليصل برك بأمك 3- أمي أنتِ جنتي 4- بنيتي لكِ حبي 5- مذكرات مدمن إنترنت

شاهد أيضاً

700إحداثية لمعالم ومزارات وحدائق وأسواق الدول التالية : تركيا – فرنسا – سويسرا – النمسا – إيطاليا -ألمانيا

بسم الله الرحمن الرحيم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أيها السادة هذه مجموع الموضوعات التي …

2 تعليقات

  1. do you like strasbourg?

  2. أخي / jilal
    من رأى ستراسبورق لا يمكنه إلا أن يعجببها , ومن عاش لحضات فيها فإنها تغرقه من حبها..
    لك أن تعشقها بعد أن تبحر في نهرها ..
    أخي حياك في مدونتي ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.