وداعــــــــاً ســـــــويســـــــــــرا
جنيف , لوزيرن , لوزان , زيورخ , بيرن , إنترلاكن , أسماء تلك المدن تظهر على اللوحات الإرشادية أثناء سيري في طرقات سويسرا…تظهر باسمه ..بأمل اللقاء…حزينة… بألم الفراق…تظهر وردية بلون الزهور…بيضاء نقيه بلون الثلوج……فلكأنها تودعني…مودع حبيب و عاشق…لقد تركت تلك الديار خلف جبال الألب …وفوق بُسط العشب…و تحت زخات المطر…و بين أريج الزهر…ودعتها بالفراق….و أودعت في قلبي أملاً بالتلاق…
وكنت وعدتني يا قلب أني *** إذا ما تبت عن ليلى تتوب
و ها أنا تائب عن حب ليلى *** فما لك كلما ذُكرت تذوب؟!!
في طريق طويل أسواد قاتم… يمر وسط مروج خضراء غامقة …تطالعنا حيناً و تهرب منا أحياناً أخرى…و هذا الطريق المعبد محاط بسياج من سيقان الأشجار و تغطيه أغصان الغابات …ومن خلفها جبال عاليات…و مسقوف بالسحب الداكنات…يمتد هذا الطريق بلا نهاية…و هو منبسط مستمر …ثم ينحني ويتعرج تارة…و يرتفع ويهبط تارة أخرى..ثم يعود إلى امتداده المستمر الممل… حتى أحس أنه بعيني يضيق…ثم يضيق…ويضيق..حتى يلتقي حديه و ينتهي إلى لا شيء…أو أن نهاية الأرض هي عند نهايته هناك… حيث نهاية الأفق…بل أحس أن نفسي تضيق معه … حتى كأني أدخل بوسط نفق ضيق شديد الظلام…
مع هذا البعد في الطريق …و هذا الملل بتبدل الطبيعة …و الألم بالفراق…فإن الحزن بدأ يدب بين أضلعي…و أخذت الهموم تزحف إلى صدري …كيف لا…وهي التي تتحين مثل هذه الفرصة … و تبحث عن وقتاً سانحاً لتدخل فيه إلى قلبي…فهل هناك أفضل من هذه الوقت لتعيش فرصتها الكاملة لتقليب الآهات بطرقها المختلفة…و تتفنن بنبش الذكريات…و لقد استَخدَمَت كل حيلها لعرض شريط الحياة…فهي تبدأ بالعودة بذاكرتي إلى رمال وطني…و حنان أمي…و بسمة طفلتي…و تعزف بناي حزين على تلك الجراح…وتعلم أنه وقت مناسب لمثل تلك الهواجس…
و هي بيئة مناسبة لاشتعالها و تأججها و ظروف ملائمة لارتفاع أعمدة لهيبها…فإما أن ييأس القلب من التلاقي و إلا يوصلني شوقي للقمر الذي ينتظرني… في هذا الطريق الطويل الممتد لتسع ساعات أو تزيد…هو وقت كافي لأن تبدأ سلسلة الاحزن …تنسكب… و حبيبات الذكريات… تتساقط…و صفحات الوله ..تتقلب…و حرارة الشوق .. تتقد…
شكوتُ وما الشكوى لمثلـيَ عـادة *** ولكن تفيضُ العينُ عنـد امتلائهـا
إن كل الصور الجميلة التي عشتها خلال تلك الأيام الحالمة في سويسرا…بدأت تتغير صورتها…وبدأت تذبل زهرتها…و تتساقط وريقات أشجارها…و تقفر أرضها… وذلك بفعل الوداع…وبفعل الحنين إلى الوطن…لقد ظهرت صورة موطني و بلدي كأجمل من كل ما رأت عيني …و أكمل من كل ما وطئت قدمي…و أعذب لحناً من كل ما سمعت أذني من ألحان الطبيعة الجميلة هناك…
إن جمال وطني يكمن بأنفاس ساكنيه …وأيام خالية قضيتها فيه…فمهما تكن الصور التي تُعرض في ذاكرتي عن بلدتي…لكنها… أجمل من كل الصور …و أكمل من كل المشاهد…وأتم من كل المناظر…رغم ما تحمله من بعض القسوة في ثنايا طبيعتها…لكن يكفي أن طبيعتها هي…نبتُ أرضي…و حُسن وطني…و صورة من صور حياتي…
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى *** ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى *** وحنينه أبداً لأول منــــــزل
أتجول بين تلك الخمائل الأوربية و قلبي يطمع بما تطمع به ميسون الكلبية وهي شاعرة بدوية… تزوجها معاوية بن أبي سفيان …فأسكنها القصور …و طاف بين يديها العبيد و الخدم…و أكلت اللذيذ من الطعام و لبست الجميل من الثياب…حتى تغيرت حالها …وتبدلت أحوالها…ولكن لم يُغنها ذلك..فقد أتعبها الجمال الزائف… ولم يطفئ في نفسها نار الغربة و الحنين إلى الأهل و الوطن…ولم ينسيها أيام قضتها في بيتها على رأس نفوذ في أطراف الصحراء…فأنشدت أبيات الشوق إلى الأحباب عبر النسمات… فلما علم معاوية بقصتها و قصيدتها و التي نثرت فيها الأمل بالعودة …طلقها …ولحقت بقومها حيث هناك يكمن العلاج…فقد انطفأت نار الشوق بأشعة الشمس المحرقة…و خمد لهيب الحب برمضاء الصحراء المقفرة…و سكنت نفسها بسموم الرياح اللافحة…فتقول في قصيدة معبرة :
لبــيـت تخـفـق الأرواح فــيه *** أحب إلي من قصر مـنـيـف
ولبس عباءة وتقـر عـيـنــي *** أحب إلي من لبس الشفوف
وأكل كسيرة في كـسـر بيتي *** أحب إلي من أكل الـرغـيـف
وأصـوات الريـاح بـكــل فـج *** أحب إلي من نقـر الـدفـوف
وكلــب يـنبـح الطراق دوني *** أحــــب إلـــي من قـط ألـوف
وبكر يتـبـع الإظـعـان صعب *** أحـــب إلي مــن بــغل زفوف
وخرق من بني عمي نحيف *** أحـــب الـــي من علج عنوف
إن كانت ميسون قد انفك قيدها…
فإني لازلت مقيداً…
فأين تلك الديار التي تخمد هذه النار ؟!
لقد احترت…و تساءلت كثيراً…لماذا هذا الشوق الكبير في قلب هذا الشاب النجدي…فهل حرارة أرض الجزيرة قد أشعلت الحب في قلبه أكثر من غيره…أو أن رمضاء أرضها قد زادت من لهيب شوقه…فهو كلما ابتعد عنها ازداد تمسكاً بها….و كلما أبعدته دنياه عن أراضيها تعمقت جذور الوله في أعماقه حتى تبلغ أطرافه…و كلما تساقطت قطرات المطر لتمسح الحزن عنه…ذكرته بأرضه الصحراوية المجدبة هناك فأوقدت في قلبه نار حب جديدة…فيتمنى أنه في تلك الديار رغم جدبها و إقفرارها…مسكين هذا الشاب…فإنه و إن تجول في كل مكان …وإن استمتع بها لبعض الزمان…فلا يطيب له إلا أن يعود إلى موطنه بأسرع وقت…
لقد هربت كثيراً من تساؤلاتي…و حاولت أن أبتعد عن أحزاني…..فأخذت أتجول في بقاع أوربا…لأطفئ تلك النار …و أبحث عن بلد آخر أجد فيها أنسي…أو أرض تنسيني غربتي…فتنقلت بين البلدان و المدن و الأمصار…فإنما هي أيام من الأنس…ثم فجأة و بلا مقدمات تخونني عيني…و يسبح بعيداً فكري…و يتركني لوحدي قلبي…
فأجد نفسي تواقة للعودة…مهما سُرت العين و ابتهج القلب…إن نشيد العودة يشتعل في كل وقت و حين…و إن كان يَبتعد عني هذا الحنين في أراض جميلة كأرض سويسرا لفترات…فإنه ينزل فجأة في مثل هذا المسير و مثل هذا الطريق الطويل…و ما أعظمها من كربة حينما يبدأ نغم الحب القديم بعزف ألحانه…و ليتني مع هذا النغم استطيع أن أنسى بعدي…أو أن استطيع أن أقنع نفسي أنني قريب من حلمي ..فلا أنا تحررت من قيود الحزن …و لا أنا نعمت بنعيم تلك الذكريات ..و ما أشدها من ذكرى حين تظهر صورتي و أنا لوحدي بأرض غير أرض…و منزل غير منزلي…فأحسب أني جسم بلا روح..و نبض بلا قلب…و أنفاس كغصص …فهل تقصدني أيها الشاعر…حين أنشدت قائلاًً :
العين بعد فراقها الوطنا *** لا ساكناً ألِفَــت ولا سكنا
ريّــَانــة بالــدمـع أقلقها *** ألا يحس كرى ولا وسنا
كانت ترى في كل سانحة *** حُسناً وباتت لا ترى حسنا
والـقـلـب لولا أنَّه صعدت *** أنـكـرته وشـكـكـت فـيه أنا
كم ذا أغـالـبـه ويـغـلـبني *** دمــــع إذا كـفـكـفـته هـتـنا
لي ذكريات في ربوعـهم *** هنَّ الحياة تــألــقــاً وســنـا
لـيت الذين أحبــهم علموا *** وهم هنالك ما لقيـت هنا
ما كنت أحسبني مفارقهم *** حتى تفارق روحي البدنا
إن الــغـريـب معذب أبداً *** إن حلَّ لم ينعم وإن ظعنا
خرجت من سويسرا و سبحت في القارة الأوربية…تجولت في عدة مدن هذه الصيفية… اختلاف في الطبيعة و تنوع في الأجواء… قنوات و أنهار…و أشجار تتزين بالثمار…و أشجار متمايلة الأغصان…أشجار متلاصقة السيقان…أشجار متنوعة الأوراق و الأزهار…بيئة جمالية تختلف من دولة إلى دولة…و ثقافات مختلفة…و حضارات متعددة…قصور و بنايات قديمة…و مباني حديثة مشيدة…و متاحف و مزارات و معارض متنوعة …تجولت فيها برحلات قصيرة على الطريقة الانفرادية…
بدأت من مدينة ليل الفرنسية …حيث سكنت النسمات النجدية هناك…تبحث عن الهدوء و السكون…فأرادت تلك النسمات أن تستنشق العطر من الزهور…و أن تستمتع بالحضارة في تلك البقعة…و لكن هل تهدأ النسمات النجدية إلا بأرضها ؟…و هل تعيش إلا بأجوائها ؟…فكلما تحركت هبوب أو نسمات ..حسبتها نفسي نسمات من هناك…نسمات من أرضها و بيئتها…فإن لم تجدها كما تريد أخذت تندب حظها…و تقلب وريقات حياتها ….و تتأمل صورها …و تعود بالذكرى للوراء
وتستعذب الأرض التي لا هوى بها *** ولا مــاؤها عــذب ولكنها وطن
ألا إن وادي الـجـزع أضـحى ترابه *** من المسك كافوراً وأعواده رندا
ومــا ذاك إلا أن هــنــــداً عـشــيــة *** تمشت وجرت في جــوانـبه بردا
لقد خرجت من تلك المدينة الهادئة ” ليل الفرنسية “…فأرادت نفسي أن تتذوق طعماً آخر من تلك الأرض…فاخترت لها هدية جميلة …
هي مدينة ستراسبورغ الرومانسية … فطافت النسمات بين أنهارها و قنواتها المائية …تبحر النسمات عبر الأنهار و تنظر إلى ما احتوته تلك الديار من الجمال…و لكن أبت الذكريات إلا أن تبحر معي و تتشبث برحلاتي…و تلازمني في غيبتي و غربتي… لقد ظلت نفسي تبحث عن أنفاس تعرفها…و تنظر إلى الوجوه من حولها لتبحث عن تعابير تألفها…فلما ظلت الطريق بين تلك الوجوه…و لم تجد مبتغاها…تحول الجمال إلى كدر…و تحولت السعادة إلى تعاسة…لأن مطلبها معنوي…مطلبها أن نعيش نحن و من نحب في فضاءٍ واحدا…فترسم أقدامهم خطوات حياتهم على أرضنا فنتتبعها …و تلامسنا النسمات التي لامستهم فننعم بها..و يصاحبنا الرحيق الذي بقي بعدهم حتى يعلق بنا…لذا فحبهم يتنقل معنا…تنقله قلوبنا …و تنعم به صدورنا…وتحيي ذكراه عقولنا…حيث نعود للماضي البعيد السعيد …القريب لقلوبنا…فعندها سوف تعترف نفسي بأنها وجدت الجمال بعد يأس…
ويا وطني لقيتك بعد يأس *** كأني قد لقيت بك الشبابا
بلد صحبت به الشبيبة والصبا *** ولبست ثوب العيش وهو جديد
فإذا تـمـثل في الضمـيـر رأيته *** وعليه أغـصـان الشـبـاب تـمـيد
لقد قررت الرحيل…إلى بلد آخر…لعلي أجد بالترحال متنفس جديد…لذا اخترت مدينة طافحة فوق صفيحة الماء…فركبت مركباً الحياة…و أخذت أبحر بين جسور تلك المدينة القديمة…وبين مبانيها العتيقة…القارب يبحر بنا في مدينة بروغ ….
و السياح يتعجبون من صنع الأوائل…لقد أبحرت بجانبهم…أما نفسي فليست معهم…واستمعت لمرشدهم…و تحركت تعابير وجهي من كل ماهو غريب و عجيب من صنعهم…فالتفت فجأة لأبحث عن نفسي..فوجدتها تبحر بقارب آخر…و تعيش في عالم آخر…جلست أنظر إليها وهي جالسة حزينة وحيدة …فعلمت أنها ترحل بعيداً عني…و غادرت مركبنا الذي يتقلب بنا في القنوات المائية…و اختارت أن تتقلب في طرقات حياتي التي عشتها في أرضي نجد الصحراوية…نظرت إليها…و آثرت السكوت لتنعم بعالمها الذي هو عالمي و حياتي…
لله أشـواقـي إذا نـزحــت *** دار بـنـا، و طـواكمـوا البعد
إن تتهمي فتهامة وطني *** أو تنجدي، يكن الهوى نجد
كم تدور نفسي في فلك الحياة…وتتقلب بين ليلها ونهارها…ففي النهار …أسعى في الأرض و بلا توقف لأنسى همومي…و أبتعد عن التفكير حتى لا أذكر سالف أيامي…و في ليلي أسكن تحت لحافي …الذي أعد بشكل جميل في أحد المدن الهولندية الرائعة…أسكن أنا و روحي تحت الغطاء…فتحت الغطاء أحس بأني أكثر قرباً إلى نفسي…حيث لا شيء ظاهر سوى سواد يغطي الجميع….في هذا الهدوء و الظلام تتشابه كل الأماكن في العالم…فلا فرق بين أن تكون في ظلام في أقصى الأرض أو في ظلام في بيتك و وطنك فجميع الصور معتمة و مختفية…لذا تطمئن نفسي لهذا الهدوء الحالك…وتعتقد أنها سكنت في أرضها التي تعرفها…فتبدأ ترسم نفسي في تلك القبة المظلمة رسومات جميلة لأشياء عديدة …أفراح سابقة و لحظات سعادة منتظرة…أيام ماضية و مستقبل مشرق…أيام الطفولة البريئة و مراحل الشباب الفتية…ترسم تحت اللحاف و في قبة الظلام الليلية ألف حكاية و حكاية…فهي تتنقل من حقل إلى حقل من حقول الحياة…تقطف من زهورها أزكاها …و تنظر إلى قطرات الندى العالقة في أوراقها…و تتأمل جمالها…فلما يعييها التعب…و يتسلل النوم إليها…وتغط بسعادة أيما سعادة….بما وجدته في مسائها من استقرار و أمن و راحة… بعد أن فقدته في نهارها…و عندما ينقضي الليل..و تبزغ الشمس…اذهب أنا و نفسي لأطل من النافذة…فأجدها تنظر و بحزن إلى تلك الأرض …
فمن خلال تلك المعالم الغريبة تعلم أنها في مدينة هي غير موطنها الذي كانت تظن في ليلها…و أنها لازالت في غربتها…و أن الليل إنما هو مخزن الأحلام…أتَصَبَر من أجلي و أجلها…و أجدني حائراً من حزن نفسي…فأضمها إلى روحي…و أواسيها في حزنها …و أصبرها …و أنا المحزون…و أسليها بأن الكرب سوف ينفك قريباً…و أنا المقيد اليائس….و أخبرها بأن الأمل بانتظارنا….و أنا الخائف البائس… فياطيف بلادي..زرني ولوفي أحلامي…
وطني طيفك ضيفي في الكرى *** كلــما أطـبـقـت جفنيّ رقد
يـتـجـنـى فــــإذا مـلـــت إلــــى *** ضمه أعرض عني وابتعد
أترى طــيف بـــلادي مــثـلــها *** كلما رق له الـقـلـب استبد
خرجت من وسط المدن الهولندية…باحثاً عن مكان وسط الطبيعة لعله يكون أقل ضيقاً و أكثر متنفساً…و يكون للمتعة منفذاً …و للسرور مثيراً…ولعل الطبيعة تحرك في قلبي مكامن الجمال…و تعزف الألحان… ألحان السعادة…خرجت بعد أن مللت من كل شيء…مللت من مظاهر التقدم و الحضارة…مللت من وجوه هي لي منكرة…و قوم ابلغة بيني و بينهم منقطعة…فليس بينني وبينهم حديث يسلي…ولا جلسة تسر…و لا لقاء يُسعد…و لا سمر يؤنس…
خرجت من تلك الديار مبتعداً عن مبانيها و التي أرى في كل مبنى منها مظهراً يدل على أنني في بيئة غير بيئتي…فتكون سبباً لتحرك الحزن في قلبي…فأذهب إلى البحر و هو الذي لا يفرق بين بلدهم و وبلدي…فالبحور في كل البلدان متشابهة…لذا فإن النظر إليه و الجلوس على شواطئه يجعل النفس تطمئن…لكن ويح قلبي…عندما أقف أمام البحر اللمتد بلا نهاية…و أشعر بأن وطني خلفه ينتظرني….و خلف تلك الأمواج الهائجة المتلاطمة يناديني…عندها أعلم أنني في حزن عميق…فليس لي قدرة بالوصول إليه…وليس لي القدرة بأن أصبر عنه…وليس لي القدرة على إجابة ندائه…
ناء عـن الأوطـان يـفـصلني *** عمن أحـب البر والبحر
في وحشة لا شيء يؤنسني *** إلاّ أنا والـعـود والـشـعر
حولي أعاجم يرطنون، فـما *** للضاد عند فصيحهم قدر
نــاس ولـكـن لا أنـس بـهـم *** ومـديـنـة لـكــنـهـا قـــفـر
حتـام أخــنـق غـصـاتـي وأنـتـظــــرُ *** طال الطريق وأوهى عزمي السفرُ
جارت عليّ النوى واستنزفت كبدي *** فكيـف يضـحك فـي قـيـثارتي وترُ؟
أنّى التفت رأيـت الأفــق مــعتــكــراً *** أفي سمائي، أم في مقلـتـي الكـدرُ؟
كم ركبت مركب الأحلام…وظللت أسير ليل نهار…تنفث الرياح بأشرعتي..و تعبث الأمواج بمركبي…أتبع الليل بالنهار…أخشى المغيب…و أنتظر الشروق…و كل ذلك حتى لا أحس بأنني يتيم…و حتى لا أشعر بأنني قد فقدت شيئاً عظيم…و حتى لا أنفصل عن ماضيي الجميل…و لا أحمل هم واقعي المجهول…لذا أبحرت …حتى أنسى أن الذي يضمني هو ليس حضن أبي…و أن أنسى أن روحي ليست في جسدي… فهل أنسى ياترى أبي…
وطني ما زلـت أدعوك أبي *** وجراح اليتم في قلب الولد
هل درى الدهر الذي فرقنا *** أنه فـرّق روحـاً عن جسد؟
و عندما يشتد الأمر…و تزيد السحب السوداء من ظلمة سماء الليل الحالك البهيم…و يختفي كل ضوء…نور القمر..ومض النجوم…بقايا أشعة النهار…يبقى نوراً واحداً مشع…و هو نورٌ أجده في قلبي…فعندها أعلم …أنه نور الأمل المنشود بانبلاج النور…نور بلدي…
سريت ليل الـهوى لـين انبلـج نـوره *** امشي على الجدي وتسامرني القمرا
طعس وغدير وقمر ونجــوم منثورة *** أنفاس نجد بها جرح الدهــر يـبرا
يا نجد الأحباب لك حدر القمر صوره *** طفلة هلال وبنت أربع عشر بدرا
حبــيــبتي نــجد عيني فيــك معذورة *** معشوقة القلب فيها للنظر سـحـرا
فضة شعاع القمر في نجـد مسحورة *** منشاف لـمع قـمـر في خده سمرا
و داعـــــــاً أصــــــدقـــــــائــــــــي
قدمت إلى كولون في وقت متأخر من الليل…نزلت إلى محطتها الرئيسية في وسط البلد أو كما يطلق عليه بالألماينة السنتروم…خرجت من محطة القطار الرئيسية إلى الساحات المحيطة به و الشوارع الممتدة حوله…فكانت هادئة و خالية من المارة كعادة المدن الألمانية في إجازة نهاية الأسبوع…أجر خطاي في تلك الشوارع …و لأول مرة أحس بسعة الممرات التي كنت أحسبها ضيقة من كثرة المارة في أوقات أخرى من الذروة…و لا تسمع في الكون أي صوت…سوى صوت بعض الفتيان و الفتيات الذين أخذوا يقهقهون و بقوة بفعل تأثير المسكر الذي امتلأت منه بطونهم ففرغت منه رؤوسهم… أشكالهم مخيفة مريبة ..فالرؤوس إما محلوقة من أطراف معينة…أو مصبوغة بألوان مضحكة…و على أعضادهم شامات بأشكال عجيبة و غريبة…ابتعدت عنهم و أخذ الصوت يهدئ …و سكنت الحياة إلا من بعض أصوات نباح الكلاب…مررت بشارع فرعي يصدر منه صوت جهوري ضخم…يكاد ذلك الصوت أن تضيق منه تلك الأزقة…فيخرج و ينتشر في الفضاء…دعاني فضولي أن أستطلع الأمر…و أن أستكشف ذلك الصوت…أخذت ذات اليمين باتجاه الصوت…بمشيتي التي أثرت بها حجارة الطريق المرصوف…و بالترقب الذي يجعل كل حواسي تبحث عن المجهول…اقتربت من المصدر…
وجدت شاباً…طويل الشعر…نحيف الجسم..بيده قيثارة…يعزف على كل أوتاره…و من فوقه لوحة لأحد المحلات التجارية قد بان نورها…فرسمت شكله على لوحة الأحجار الأرضية و هو يرقص بصورة غريبة…اقتربت إليه أكثر…و هو مستمر بعزفه…و لم يجذب أحد من المارة الذين يمرون لسماعة…إلا شاباً واحداً…وقف بدراجته يستمع لذلك العازف…و أنصت إليه أيما إنصات…و سخر كل حواسه لاستماعة…فكأنما هو يتلذذ بتلك المقاطع …و يستمتع بتلك المعزوفة…و يترنم مع تلك الكلمات…و يتراقص طرباً مع ذلك الشاب المجتهد…فلما انتهى من الغناء..صفق له بكل حرارة و قوة…حتى ضجت منه أركان ذلك الشارع الضيق…ثم وضع بعض النقود المعدنية في علبة معدنية مقابل تلك المقطوعة التي زجر صوتها في كل مكان و كان أكثر مكان تلذذ بها هو قلب ذلك المسكين العازف و ذلك الشاب المستمع…إنني أعلم أن تلك الأغنية التي صدرت من ذلك العازف و من خلال ذلك الصوت الجهوري الغليظ …و بتلك اليد التي مرت على جميع الأوتار في وقت واحد … و التي أنتجت صوتاً نشازاً مختلطاً لا يستسيغه العقل و لا يقبله القلب …و كنت أعلم أيضاً أنه لا يمكن أن يجذب ذلك التمايل الذي يقوم به ذلك المغني الفقير مع تلك الكلمات أي إنسان لديه أي حس أو تذوق أو تناغم للأشياء…أعلم أن كل ذلك لم يصل لذوق ذلك الشاب المستمع…و لم يعجبه أداؤها بأي شكل…و لكن الذي جعله يصفق له بحرارة…و يحيه بقوة…و يتوقف عنده من بين المارة و لوحدة…و ثم يتبع ذلك كله دراهم معدودة…هو أن تلك الأغنية و ذلك العزف و تلك الكلمات وافقت شيئاً محبباً في صدر ذلك الشاب…إما ذكرته بحبيب…أو بإنسان بعيد…أو بلحظات جميلة …أو بأي شيء مرتبط بالمشاعر الفياضة…لذا وقف من دون الناس…و عيناه على الشاب و قلبه يسرح بعيداً إلى حيث الحب الذي يملأ قلبه…و يسكن صدره…لذا سرته تلك الأغنية و بغض النظر عن من يؤديها…أو يعزف أوتاره فيها…أو قدرت ذلك المغني على أن يجذب من حوله إليها….
و إنما أنا و موضوعي… و أنتم و متابعتكم مثل هذا الشاب المغني…و ذلك المستمع المحب…فقد حاولت أن أعزف بقدر استطاعتي عن تلك الأرض…و حاولت أن أبين جمالها و زينتها و روعتها و بديع خلق الله فيها…و لكن لم يكن أدائي بالشكل الذي يليق بتلك الجنة…و لا يصل لحسن ذوقكم…و لكن لامست شيئاً جميلاً في قلوبكم…و وافقت ذكراً حسناً عن أرض تعجبكم فتابعتموني حتى النهاية…و لم تقصروا معي في كل مقطع من مقاطع معزوفتي فأخذتم بالتصفيق بكل حرارة بعد كل مقطع أكتبه…فكم أنتم كرماء… لقد أمتعتموني بسماعكم لصوتي النشاز…و ما ذلك لشيء إلا لأنه يذكركم بأشياء أجمل من كلماتي…
و الشيء بالشيء يذكر…فلقد كانت لي زيارة لأحد المدن الألمانية …فوجدت في شارع ممتلئ بالمارة…فتاة صغيرة تجلس على كرسي و أمامها أبواها …و قد تسمرت أمام رسام قد أعد عدته و معه كامل ألوانه…فأخذ يرسم وجه تلك الفتاة ..فينظر إليها ثم يرسم…و يتأمل تقاسيمها ثم يكمل…و يحاول أن يفك ملامحها عبر ريشتها و لا يقف بل يستمر…أما الوالدين فقد وقفا من خلفهم جميعاً بهدوء و سكينة…و بتأملات ملؤها الفخر والعجب كيف تنشأ صورة لأبنتهم الجميلة…و هما يبتسمان حتى تراهما فتاتهم الصغيرة و تحافظ على ابتسامتها المطلوبة…فلما انتهى الرسام…و جدت الأصل أجمل من الصورة…و الوجه أكثر اكتمالاً من محاولات ذلك الرسام…و رغم ذلك فقد أخذا والدي الطفلة ينظران للصورة و يتأملانها…و يتكلمان بإعجاب و تفاؤل عن جمال أبنتهم…ثم شكروا الرسام على جميل رسمه و عظيم موهبته…و امتدت أيديهم لتهبه مبلغاً متفقاً عليه…إنني أعلم أن الأصل أفضل من الصورة…و أن الواقع أجمل من ألوان ذلك الرسام…و أن التقاسيم و إن كانت تشبه الطفلة… و لكن لم تبلغ بعض منزلتها…و اعلم أكثر أن سبب سعادتهما…أن الصورة ذكرتهم بالأصل الأجمل و أنها حركت فيهما مشاعر الأبوة…و أنهما بدا يريان شيئاً من حسن فتاتهم على لوحة مرسومة بألوان و أصباغ موزونة…و أنهما يعجبان و بفخر بأن ريشة الفنان لم تستطع أن تصل إلى ذلك الجمال الذي تحمله طفلتهما..لذا كانت مصدر السعادة في قلوبهما…
و ما مثلي أنا و أنتم ..إلى كمثل هذه الصبية و الرسام و الأبوين…فمهم رسمت حروفي من جمال تلك الطبيعة..و تلك القرى المتناثرة…و مهما وصفت مما أوتيت من الحسن البهي ..فإن وجودكم معي لم يكن يتابع كلماتي و وصفي الحرفي …و لكن هو كرمٌ منكم…فلقد ذكركم وصفي بتلك الطبيعة الجميلة و لم يصل إليها…بل كان يحرك بكم مكامن الحب لتلك الأرض…و سرحتم بعيداً معي إلى تلك البحيرات و الجبال…و تيك الأزهار و الأشجار و الأنهار…فأنستم في أرضها…و تجولتم عبر ذكرياتكم عبرها…لذا تابعتم باستمرار…و ابتسمتم باستمرار…و شجعتم باستمرار…و كنتم معي باستمرار…و لكن قد كانت الصور الداخلية التي تحتفظون بها في صدوركم…و المناطق الرائعة التي تجدونها في قلوبكم…و الذكريات الجميلة التي تحتفظون بها في أيامكم الماضية…هي الباعث الحقيقي على السعادة الداخلية في قلوبكم…فلقد حركتها بعض الحروف القاصرة..فتحركت…و بدأت تنشر عطرها عبر موضوعي بتواجد مستمر…فكان مصدر الإلهام و الإعجاب بأن ذكرتكم هذه الحروف بتلك الذكريات…
الختام…
نعم لقد كان طيف ألواني جميلاً…ولكن كان سبب ظهوره بذلك الجمال…هي قطرات حبكم التي تنزل على صفحات موضوعي في كل وقت…فتلتقي مع شعاع لطفكم…فتكون طيفاً بهياً جميلاً…نعم إنه جمالٌ من صنع أيديكم
نعم لقد كانت أرض موضوعي ساحرة…ولكن لو تأمل المارة الصفحات بدقة..ونظروا أكثر و أكثر…لوجدوا أنمبعثه رحيق أخوتي الذين يقفون خلفي…ويقدمونني عليهم…و يؤثرونني أن أتقدم في ساحتهم…و لوجدوا أن الرحيق ينبعث منهم….و الأريج يفوح من حروفهم…فجمال النسيم مبعثه ذلك الأريج…
نعم لقد كان موضوعي متدفقاً…يظهر للناس بجميل منظره…و إعلاء مكانته…وحسن صياغته…ولكن يجهلون أنه لم يكن كذلك لولا أن كانت خلفه أنهار تدفعه وبقوة…أو أمطار تغذيه على الدوام…أو جليداً يُذيبُ نفسه من أجل استمرار تدفقه…فأنتم نهرٌ جاري بالحب….ومطر يهطل بالود…وجليد صافياً نقي…فغمرتم الجميع بجميل المشاعر…
وداعاً :
و اليوم إذ أودعكم أخوتي و أخواتي….فيحزنني أن يكون الوداع بهذا الشكل الحزين…ولكن..
اعذريني إذا بدوت حزيناً *** إن وجه المحب وجه حزين
و لكن إن الذي يبعث الاطمئنان في نفسي…أنني بين أخوتي..يعذرون تقصيري..و مجتهد حتى أشفقت على نفسي من أجهادها…ولكن آثرتكم عليها…
و أواسي نفسي بأني قدمت كل مالدي في هذه البوابة …و التي عشت معكم فيها أيام جميلة…فقد صبرتم كثيراً على طول بثي سواءً الحسن أو السيئ منها…. صوت سعادتي…و أنين حزني….و إسهابي و تقصيري…و قلة خبرتي واجتهادي…لقد صبرتم علي أخوتي شهور عدة…بدأتها عبر موضوعي الأول عن النمسا ومدينة زيلامسي ( عذراً زيلامسي لقد أخطأت الطريق )…ثم رحلتي الأولى لسويسرا ( رحلتي إلى سويسرا ..ألم… و… أمل ) …ثم هذه الرحلة التي بين أيديكم…إنها أيام سعادة بقيتها بين أخوتي..و أحبتي….
أودعكم……وأقول لكم : ياطول شوقي لكم…
يا طول شوقي إن قالوا : الرحيل غدا *** لا فـــــرق الله فيــما بيــننا أبـــــدا
يا من أصافيه في قــــرب و في بعـــد *** و من أخــالـصه إن غــاب أو شهدا
راع الفـــراق فـــؤادا كنت تــــؤنســـه *** وذرّ بين الـجــفون الدمّـع و السهدا
لا يبعد الله شــخـــصا لا أرى أنـســــا *** و لا تطيب لي الــدّنـــيا إذا بـــعــدا
محبكم / نسيم نجد…
السلام عليكم
حقيقة اعجز عن التعقيب بعد هذه المشاعر الصادقه و هذه الكلمات الجميله ،، فعلاً استمتعت بكل سطر قرأته من مشاعرك في الغربه و الحنين الى الوطن ،، احييك من قلبي على هذا الموضوع الأكثر من رائع