زهور وأشجار و أنهار ..سويسرا ماهذا الجمال ؟ ( 1 )

بحيرة THUNER SEE جولة من أعالي جبال الألب على

إنترلاكن فتاة صغيرة تتقلب على العشب الأخضر بين بحيرتين…عن يسارها بحيرة جميلة أسمها BRINTZERSEE وعن يمينها بحيرة ساحرة أسمها THUNERSEE و هي بحيرة جميلة.. بل لعلي أقول أنها أجمل ما رأت عيني … و ألطف ما داعب قلبي …و أرق ما خاطب عقلي…فهي بحيرة بلون لازوردي غريب..ليس كلون البحار أو البحيرات أو المحيطات أو الأنهار…و هدوء عجيب ليس كالهدوء الذي يصنعه الصمت المهيب…و صفاء غريب ليس كمثله شيء…تُداعب فيه قطراتها شاطئها برفق و لين…من شاهد عيون السويسريين يرى أن عيونهم أخذت لونها من لون بحيرتهم… فهي زرقاء شفافة نقية صافيه شاعرية…و من شاهد تلك البحيرة يعتقد أنها من حبها لأهلها تلونت بلون عيونهم و من أجل عيونهم…

لقد كنت أيام صغري… أعجب بما يرسمه الرسامون من بديع صورهم عن الطبيعة … من خلال ما يظهر لي في الرسوم المتحركة.. و كانت هناك صورة تشدني و تبهرني و تعجبني و أجد نفسي فيها…..صورة كنت أعتقد أنها من وحي خيالهم..ومن ضمن بديع رسمهم…وهي صورة لفتى يجلس على سقالة ممتدة إلى وسط البحيرة … و بيده سنارة قد ثبت الطُعم فيها … و أرخى الصياد حبلها … حتى غرقت مع طعمها في مياه البحيرة…و جلس الفتى سارحاً سعيداً و شفتاه تتمتمان بمقطع مبهج…

و أمام ناظريه من الجهة المقابلة امتدت البحيرة حتى وقفت عند جبل عالي… ثم استلمته الأشجار إلى أن غطت قمته … و على جانبه كوخ قد تطاير الدخان من مدخنته…كما يظهر في الصورة المتحركة أن السنارة تنثني معلنة وقوع الصيد في الطعم…فيدير الفتى مكرة سنارته ليظفر بالصيد قبل أن يفلت من يد الصياد…فتخرج السمكة ترقص رقصة الموت … و تضطرب اضطراب المنزعج من صياد قد أخرجها من بيئتها التي تعشقها…

لقد دارت السنون فصرت في نفس الموقع … و نفس المنظر… و صار ما كنت أعتقد أنه خيال أو حلم أو رسم … أصبح واقعاً ملموساً بين يدي و استطيع أن أعيشه بكامل حواسي …عندما تغمس قدماك بداخل البحيرة فماؤها البارد يلبسك الدفء…و صفاؤها يمدك بالهدوء…إن موجة من السعادة تتسلل عبر قدميك … و تسير في جسمك حتى تصل إلى الهدف….القلب….عند هذه المرحلة تحس أنك جمعت أشياء جميلة… عيناك تدوران في فضاء الطبيعة… و قدماك تنغمسان في بحيرتها الصغيرة …و صدرك يتنفس من هوائها الرطب و نسيمها المنعش .

 

هنا سؤال يتردد في نفسي دوماً…لماذا أعشق هذه البحيرة بالذات ؟ …رغم أن البحيرات في تلك الأراضي منتشرة و بين جنانها منتثرة…فالجواب يحيرنني ..لأني لا أجد جواباً شافياً لسؤالي.. و لكن لعل النظرة الأولى التي أصابتني من سهمها هي التي تربطني بها …ففي العام الماضي عندما قدمت إلى إنترلاكن… و هبطت إليها من بين الجبال… وجدت نفسي بين أحضانها فجأة… فكانت أجمل صدمة …
لقد امتدت أمام عيني تلك البلدة و تلك البحيرة لتندمج سماؤها مع مائها…فهالني المنظر و أعجبني أكثر اجتماع الخضرة و الماء و الجو الحسن ..و شدني أكثر ذلك التناغم الفريد…عبر سؤال يظهر لكل من يمر على تلك الديار…كيف للسماء أن تلتقي مع الأرض ؟…و كيف لهما أن يأخذان نفس اللون ؟… و ماهذا السحر العجيب الغريب ؟…فلم أعلم أنها خلطة الحب…التي تحرك أكثر القلوب غروراً…و تنعش أكثر الأفئدة إعراضاً…و تجبر أكثر المتكبرين على الطبيعة أن يقفوا احتراماً…فهو الحب الهائج الذي يدمر بأمواجه العنيفة اللطيفة كل من يقف على بابه…فكنت أنا من ضمن من أغرقهم طوفانه…فصرت لا أرى في الكون إلا زرقة ذلك الحب و أنعم بإغراقه…و اليوم الحب يعلنها و بصراحة أنما الحب للحبيب الأولي الذي شملني وبقوة بجميل مرآه…

زد على ذلك …أنني بطبعي أجد نفسي في كل أرض تنبت العشب … و تحتوي الزهر… و يمتد فيها الشجر مد النظر… و تخترقها الأنهار … و تحيط بها الجبال…إن نفسي تحب أن تتعامل مع خلق الله بذرة …ثم تمطرها السماء بقطرة تلو قطرة…ثم تشق تلك البذرة شدة الصخرة…و تخرج النبتة بجانب النبتة…ثم تشتد كشجرة تحمل ورقة …و تزهر بزهرة فينشر عطره ..و تثمر بثمرة …ثم تقطف ثمارها … و تتساقط أوراقها … و تنحني عيدانها…

بل حبي دقيق… أحب الورقة وهي متعلقة بقوة بغصن تهزه الرياح…أحبها و هي تتهاوى من فروع الشجر فتذروها أي نسمه…أحب الورق بألوانها …خضراء صافية … و صفراء خريفية ساقطة …بل مختلطة صفرتها بخضرتها بحمرتها وهي تستعد أن تنقل بين مراحل حياتها المختلفة منذ ولادتها حتى نهايتها .

أعشق تفاصيل الورق … و أتمعن جسمها كشرايين ممتدة من بدايتها حتى نهايتها … تتشعب لتسقي الحب إلى أطرافها…أعشق تلك القطرة التي تنساق كعبرة من على سطح الورقة …حتى تسقط عنها مودعة…أعشق الأوراق التي تشكلت كقلب حب يرفرف من على أعالي الشجر…

أحب الزهور بمراحلها المختلفة و بأنواعها المتعددة…أحبها بجميل عبقها … أحبها و النحل يستقي من رحيقها… أحبها و الفراش يحوم من حولها … أحبها بلونها الأحمر و الذي يمثل الحب… أو الأبيض و الذي يعني الصفاء … أو بلونها الوردي و هي كاملة الحياء …. أو بلونها الأصفر كشمس الصباح …أحب الشجر وهو متلفع برداءٍ أخضر … و أعشقه و هو منكسر الجناح قد هاجرته كل أوراقه…أعشقه و هو يتراقص من شدة الرياح …أو عندما يتمثل كرسمة من الصمت حزينة من تطاير أوراقه الجميلة..أعشقه وهو يحمل ساقاً متيناً و تتوزع منه فروع مختلفة تنتهي بأغصان رقيقة تحمل أوراق بأشكل متفاوتة أو زهور متنوعة.
أعشق كل صوت يزقزق في الفضاء …أو أي نسمة تتنقل في السماء…بل أعجب من ذلك أحب صوت الريح وهي تعصف فصار لها صرير …و زمجرة الرعد و قد انزل بالقلوب الرعب .

إنني أحب أن أجلس لوحدي في ارض كمثل هذه الأرض أنيسي فيها صوت الشلالات … و خرير الأنهار … و زقزقة العصافير … تلامسني نفحات النسيم و تتحرك من حولي ورقات الأشجار…و يتلون الكون بأجواء مختلفة مشمس ممطر غائم مشرق مقمر مشع … أحب أشياء كثيرة مما تنتشر بالطبيعة…و لا تلومني و إن كنت غريب في طبعي لكن سعادة في رحلتي بهذا الشكل…( من الممكن أن بعضكم يقول : نحن نعشق أن تكف عن الحديث عن عشقك و تجيب الحكاية من نهايتها… فأقول : لكم إني أعشق كذلك لطف أحبابي …لذا سوف أبدأ )

قررت أن أدور في فلك هذه البحيرة … و أن أسبح في محيطها … و أن أتفحصها من أخمص قدميها حتى آخر شعرة من رأسها..سوف ألتف حولها و أتنقل بين القرى المتناثرة على خصرها…سوف أقف وقفات في أماكن مختلفة لأبين لكم جمالها و عظيم حسنها …وسوف أجهد نفسي حتى أصل لنصيحة العقاد أو طه حسين ( الشك من الكاتب ) عندما قال لأنيس منصور إنك قدمت عملاً رائعاً في كتاب رحلتي حول العالم في 80 يوماً …وصفت الأماكن فأحسنت الوصف … و تتبعت عادات الشعوب و أبرزتها بشكل يفوق الوصف… لكن نسيت أن القراء تهمهم المعلومة الدقيقة و المقننة و إبراز الوجه الثقافي لأي بلد تزرها… هذا ما قالوه لأنيس منصور..أما أنتم أحبتي فقد عرفتموني من قبل وقد سعدت بكم اليوم و قبل… فأنتم قبلتم مني كتابتي وهي تخلوا من الوصف الحسن و المعلومة القيمة … و لكن حسبي من نفسي أني مجتهد… أريد الوصول إلى قلوبكم و بأي شكل … لذا من كان منكم لديه فراغ من وقت …أو يريد أن يرقى معي لأعالي تلك الجبال… و يستمتع بمناظرها و صورها و بغض النظر عن مايشوهها من حروف صاحبها… فاليركب معي قطار الذكريات… مبتسماً بمحاولات ذلك العابث ألذي يريد أن يرسم أرض الطبيعة بحروفه القاصرة …

رحلتي هذه تنطلق من INTERLAKEN ثم SPIEZ ثم THUN ثم BEATENBERG ثم العودة إلى نقطة البداية INTERLAKEN

انطلقت من إنترلاكن …و مررت بمطعم وقفت العام الماضي بجانبه … و هو الذي يظهر في الصورة أعلاه … و فيه جلسة جميلة رائعة ..ثم أخذت بالمسير حتى وصلت إلى بلدة SPIEZ وهي تبعد عن إنترلاكن بمسافة ( 10كيلوا )

و هي قرية هادئة جميلة كعادة القرى هناك..وهذه القرى قد تجد فيها مكان مناسباً للسكن … وذلك عندما تريد أن تحجز عبر النت فقد تظهر كخيارات للمناطق القريبة من إنترلاكن … فليس من الضروري أن تقطن إنترلاكن لكي تستمتع بتلك البحيرة … بل إن مثل هذه القرية قريبة لكل الأماكن التي تختص بها إنتلاكن…خرجت منها متوجهاً للبلدة التي تسمى البحيرة على أسمها و هي THUN

رابط مدينة THUN

وهي مدينة جميلة أكبر من إنترلاكن بقليل …. و شوارعها مزدانة بالمحلات المختلفة مما يجعلك تشعر بأنك في مدينة كبيرة … و تلاحظ أن الأقدام السويسرية هناك أكثر … بالعكس من إنترلاكن و التي يكثر فيها السياح من العرب و اليابانيين و الهنود و جنسيات مختلفة … أما تلك المدينة فالعدد أقل … و الطابع العام يخبرك أنك بين السويسريين فقط … وهي تبعد عن مدينة إنترلاكن تقريباً بمسافة ( 30كيلوا )… و هي منطقة كذلك مناسبة للسكن كسابقتها أو أفضل و ذلك لكبرها و توفر المحلات فيها .. و أعتقد أن الأسعار فيها أقل من صاحبتها انترلاكن … و ذلك لأن السياح يجهلون مكانها … و يخافون أن يخوضوا تجربة غير مضمونة النتائج…فمن كانت وسيلة تنقلاته السيارة الخاصة… فهي بنظري تستحق السكن و التمتع بها كما هو الحال مع صاحبتها إنترلاكن …و هذه المدينة لم يتح لي أن ألتقط لكم صوراً من جميل مبانيها … و بديع ممراتها …و التي رصفت بشكل رائع ..و هذه الممرات أو الطرقات توازي أنهار متفرعة في أطراف المدينة قد أتت للتوا من رؤوس الجبال لترحب بالضيوف من كل مكان..

و على جانب تلك الأنهار تكثر الأشجار و المقاهي و المحلات و التي تحتضن المارين و السائحين من الغرباء و أصحاب المدينة …و لقد كان يوماً ممطراً استمتعت به و بجمال تلك المنطقة … و لكن نغص علي متعتي … هو عدم قدرتي أن أجعلكم تشاركوني هذه المتعة عبر الصورة و ذلك لصعوبة التصوير أثناء المطر…

و لقد خرجت من تلك المدينة متوجهً للجهة المقابلة من البحيرة …و على مخرج THUN توجهت إلى مكان تأجير القوارب و الرحلات البحيرة رابط الرحلات البحرية .فقال لي موظف ينظر من خلف نظارة غليظة أنك قد أتيت مبكراً و لم تبدأ بعد الرحلات البحيرة فموعدها الساعة العاشرة صباحاً…

ثم أخذ يقلب كتاباً ممزقاً بين يديه …و كأنه قد أجاب على هذا السائح بما يرضي ضميره… لكن السائح العربي لم يكفه هذا الجواب المقتضب من الخبير السويسري … فأراد أن يسأله عن مناسبة الجو لمثل هذه الرحلات فقال : إن الرحلات تقام في كل وقت و العشق يحدده صاحب الهوى…فمن الممكن أن تناسبك في جو ممطر و تناسب غيرك في جو مشمس…و لعله لاحظ أنه قد أطال بالجواب …فرجع مسرعاً خلف نظاراته ليتابع حروف كتابه…

و لكن هيهات أن تنعم بحروف كتابك و لديك سائح عربي قد استيقظ من قبل أن تخرج الشمس من مشرقها و نام من بعد أن سقطت الشمس من خلف مغربها…فقال السائح العرب : أي السبل أفضل للوصول إلى مدينة BEATENBERG…التفت ثم لمس النظارة بأصبعه فتزحلقت من على منحدر أنفه….ثم حملق بعينيه من بين رموشه و برواز نظارته… ثم أخذ يشرح بشكل مفصل و لسان حاله يقول : اللهم طولك ياروح…يانهار مش فايت….

و اقتنع السائح العربي بأنه قد أخذ كامل حصته من الشرح الوافي عن المنطقة و عن تأجير القوارب و الرحلات السياحية…ثم رُسمت ابتسامة من الجميع هي ابتسامة وداع و اعتذار…

( لم تنسني قطرات المطر أن ألتقط صورة لأحبتي فكانت الشماسة تشاركني المنظر )

خرجت و نظرت للبحيرة و ما حولها… و زخات المطر تزيد من قوتها …و البط يركض مسرعاً تائهاً بين البحيرة و اليابسة…و الزهور تتلقف القطرات ثم تنساب منها إلى الوريقات ثم تتلقفها أرض عشبية زاهية…

السماء تتلون بلون السحب الداكن .. و القطرات تودع السحب تحت لمعان البرق و صوت الرعد …و تنزل بهدوء على سطح البحيرة مستقرة…ثم تلبث منتظرة حتى تشرق شمسٌ من جديد على البحيرة… لتعود بخاراً عالياً مطلاً على تلك المدينة …

القطرات ترقب الزمن حتى تعود إلى دورتها … و أن تمر بكافة مراحل عمرها …بخار … ثم سحاب… ثم قطرة… ثم جزءاً من بحر أو بحيرة…فتتكون من جديد سحابة يلمع برقها و يعلوا صوتها … ثم تتساقط قطراتها من جديد على تلك البحيرة الهادئة .

بالقرب من مكان تأجير الرحلات البحرية يمكن أن تنعم بزيارة و إطلالة من أحد شرف تلك المباني الأثرية Schloss und Park Oberhofen حيث لك أن تتجول عبر غرفه و تشاهد و تأخذ استراحة في صالونه و تشاهد معروضاته و تتأمل رسوماته

أو تمر على حديقتها الغناء الخلفية …و التي تحتضن زهوراً بألوان زاهية بهية …و منظراً جميلاً للبحيرة..و يمكن أن تصل إلى هذا المتحف من THUN عبر رحلة بحرية

الموقع :
موقع Schloss und Park Oberhofen

هاتف الاستعلامات الخاص بهذا المتحف :

0041(0)332431235
العنوان :
3653 oberhofen

ودعت البحيرة مستعداً أن أصعد الجبال من أجل الوصول إلى BEATENBERG و قد أعتدت أن أسكب فنجالاً ساخناً من الشاي أو القهوة عندما أريد أن أعبر طريقاً لأعرف مسلكه…و ذلك حتى يكون مؤنسي في رحلتي… إن رحلة الأف ميل تبدأ بميل واحد…و رحلة الخوف تنقضي بالتوكل… و رحلة المتعة تكمن بما يختبئ لك من عالم يقبع خلف تلك الجبال المظلمة …

أدرت المحرك و عبأت الدليل بحروف تلك المدينة و استدار السهم ليقودني إلى الطريق السائر إلى BEATENBERG

موقع مدينة BEATENBERG

كذلك موقع آخر

و هذا هو الموقع الأخير

شددت حزامي .. و شدت السيدة المتحدثة الرسمية في الدليل من صوتها لتعلن لي أنه يجب أن أخترق الطريق القادم ثم آخذ أقصى اليسار…البخار الناتج عن كأس القهوة يتطاير في فضاء السيارة حتى يصل إلى أنفي معلناً أن هناك من ينتظر منك رشفة…رشفت رشفة مسحت من حسنها كل الأصوات الحسنة و التي خزنتها منذ أيام عدة …فمع تلك الرشفة طارت العصافير التي تغرد… و أسكت خرير الأنهار… و هدير الشلالات… وانحت الأغصان… و تساقطت الأوراق… و ذبلت الزهور …و صمت الكون ليسمع تلك الرشفة …و التي تعبر بلغة بلدة الكاتب أنه قادم على أمر مهول …و أن الأمر جد …و أن الخطر مقترب …و أن الصبر يستحضر …و القوة و العزيمة يجب أن تظهر … جمعت قواي و بدأت المسير بعد أن رأيت أن الطريق جد خطير…

لقد تقلبت بين الجبال… يستلمني جبل من قعره ثم ألتوي عليه حتى أصل رأسه … ثم يرميني لجبل بجنبه … فأمر بطرق طويلة ملتوية … و طرق بعيدة مستقيمة … و منحنيات خطيرة… و بعد أن يبلغ التعب مني مبلغه يسلمني للجبال الثالث… الذي ينتظرني على أحر من جمر …فهو يريد أن يختبرني بعد أن تجاوزت و بنجاح اختبارات القدرة التي قبله…فأسير كفتى السيرك على خط رفيع دقيق و تحتي كل الحياة و كل الطبيعة قد صغرت و صارت كأجزاء دقيقة بل هي أدق بكثير من الأجزاء الدقيقة …

لقد كان الجبل الثالث أشدهم قسوة … و أبعدهم عن الرحمة … و أكثرهم بي نكاية…فمن نفق مظلم إلى جسر معلق … و من جو ضبابي كالليل إلى غابة سوداء مظلمة أغصانها متماسكة كأنها نظمت بإبرة …

السماء ممطرة بقطرات لم أعتد على مثلها فلها صوت من كبر حجمها و عظم وقعها … و ماسحات سيارتي بحهاد مستمر … فما أن تزول قطرات حتى تعود المزن بأشد منها قوة … كان السحاب من فوقنا و من أسفل منا بل و يمر من بين أيدينا… فتارة ألحظ أن رءوس الجبال مشمسة و تارة مظلمة و أخرى ممطرة …

تنوع شديد الغرابة … رغم ذلك و ماصاحب كل ذلك من أهوال …لكن حب المغامرة … و اكتشاف المجهول يبعث في النفس السرور …كيف لا و أنت لا تعلم ماذا يخفي لك الجبل من خلفه … فأنت بإنتظر مستمر … و إذا اقتربت منه إذا تصطف المنازل الجميلة و الحدائق المنسقة …و كيف لك أن لا تستمتع و أنت تعلوا حتى تبلغ القمة ثم تهبط بمنحدر حتى تكون بجانب البحيرة ….ثم تعلو مرة أخرى كأنك في لعبة تقلبك بين السماء و الأرض…

وكيف لك لا تسر … و أنت لا تعلم مالذي سوف يخرج عليك من بين سيقان الأشجار …هل هو غزال ؟ أو قطيع من الأبقار؟.. أو رعية من الأغنام ؟….أو يمر بجانبك حصان…كل ذلك و أعظم … و كل ذلك التنوع و أكثر منه عندما ترتسم الطرق من على رؤوس تلك الجبال مكونة شرايين تصل قلوب محبي تلك الأرض إلى بيوتهم …

و يستمر بي المسير حتى وصلت إلى سيدة بعد أن طال بي الطريق وخفت أنني ظللت … فقلت : لها أين الطريق إلى BEATENBERG فتبسمت …ثم شرحت لي مسالك الطريق الذي أسير عليه فقالت : عليك أن تواصل فطريقك صحيح ولكنه عسير …

ثم أكملت وقالت إن المدينة على بعد كيلوهات بسيطة … و لكن لوعورته قد يأخذ أكثر من وقته … سعدت بكلماته الترغيبية و الترهيبية في نفس الوقت…كمن سقاني ماءً مالحاً بعد عطش.. واصلت المسير على نفس المنوال و بسرعة منخفضة توصلني لهدفي و لكن بشق الأنفس…

وكان أكثر ما أرهقني أن الطريق ضيق… فهو مصمم لسيارة واحدة فكانت أعصابي مشدودة … و أي خطأ يقرب إلى النهاية و تنقلب فيها السعادة إلى تعاسة …فكنت أرقب بعيني الطريق و منحنياته … و أنظر إلى البعيد و مفاجأاته… و أخاف من القريب و كرباته …

كنت أخشى أن تقابلني سيارة …فيجب أن يتراجع أحدنا إلى الخلف حتى يصل موقف جانبي صغير…. و نلوي المرآة الجانبية حتى لا تحتكان ببعضهما… كنت أنظر كلما سنحت لي فرصة إلى قعر الأرض و كيف استحالت تلك البحيرة إلى قطرة ماء بعد أن كانت بحيرة عظيمة لا ينتهي إليها بصرك

و كيف أن القوارب و السفن قد غدت كلعب متناثرة بوسط تلك البحيرة … و تجد من حول البحيرة أكواخ كقطع من القرميد الأحمر متناثرة…و يمر خلالها طرقات تلبس الزي الأسود… لقد كنت أقف كلما سنحت لي فرصة أو وجدت موقفاً منسباً…فأقف مشدوداً لمنظر تلك الجبال و ماتحتويها من جمال …

كانت رحلتي لهذه المدينة تهدف إلى التطلع على ماتحويه من طبيعة… و التمتع بإطلالة من على رؤوس الجبال للبحيرة و ما حولها … إن الزائر لتلك البقة يجد نفسه في كل منظر…تحت شجرة أغصانها وارفه و ظلها بارد ….و الأرض ممتدة بالعشب الأخضر…و المجاري المائية تنساب كشلالات… ثم تهبط كجداول صغيرة فتكبر شيئاً فشيئاً حتى تكون أنهر جارية …و من حولك الجبال بالونها خضراء فاقعة من أعشاب تغطيها … و خضراء غامقة من غابات تكسيها … و بيضاء نقية من ثلوج تبرق من على أعاليها…

و الضباب و السحاب يختلط بعضها مع بعض… مطر و رذاذ …و برد و دفء … شمس و غيوم …نور و ظلام … نهار وليل …لكن كل الجمال الذي يخلف بعده البعد و الفراق هو في القلب حسرة و ندامة أكثر مما صنعته السويعات البسيطة من فرحة و سعادة ….
لقد حانت ساعة الوداع فودعت البيوت التي في قم الجبال

و الأكواخ التي تختبئ بين الأشجار…

و السحب التي تلتقي مع الخضرة و الجمال…

و ودعت الأغصان و هي غافلة عني لاهية ترقب بحيرتها التي عشقتها و تنظر إلى السحب كيف تقبلها

 

لقد حان الرحيل عن هذه الأرض المعشبة و رسمت لي بين صغير نبتها جميل الذكريات

فالآن أودع تلك الأرض و أمامي البحيرة تحتضن السماء ..و أتسلل من بينهم بهدوء حتى لا أقطع عليهم لحظاتهم الجميلة و و أخرج كما دخلت ضيفاً خفيفاً على المحبين رقيقاً رفيقاً بهم في لحظاتهم الرومنسية…و عسى أن أكون كذلك ضيفاً خفيفاً على قلوبكم ….

خرجت من بينهم و بدأت أفكر بالعودة بعد أن تجولت هناك … و رسمت صورة في ذهني عن تلك المنطقة وحان الوداع …. ففكرت بطريقي الذي أتيت منه خلال رحلتي فخشيت أن يكون طريقي من BEATENBERG إلى INTERLAKEN هو بنفس الصعوبة …خرجت من BEATENBERG فوجدت الطريق أسهل من سابقه بل إنني انحدرت بشكل سهل سلس…

و سبقتني نفسي بالوصول إلى الأميرة …. و التي غبت عنها ساعات قصيرة … و لكن هي بعمر العشاق طويلة … و لقد كانت المسافة بين BEATENBERG إلى INTERLAKEN تقدر ( 20 كيلوا) و هي نفس المسافة بين THUN و BEATENBERG و لكن الوقت أقل وذلك لأن الطريق أفضل و أسهل..

و عندما وصلت إلى إنترلاكن بدأت أخطط لرحلتي القادمة و هي إلى أعلى جبال ثلجية في أوروبا و التي يصلها القطار الجبلي…
في الختام…
تحياتي لكم صحبي…

مواقع :
رقم ( 1 ) مطعم على البحيرة قريب من مدينة SPIEZ
رقم ( 2 ) رحلة من THUN على البحيرة
رقم ( 3 ) تأجير الرحلات البحرية و متحف
رقم ( 4 ) مطل و مركز مخيمات

عن سليمان الصقير

محب للسفر والترحال : مؤلفاتي : 1- 800 خطوة لرحلة سياحية ممتعة 2- 150 طريقة ليصل برك بأمك 3- أمي أنتِ جنتي 4- بنيتي لكِ حبي 5- مذكرات مدمن إنترنت

شاهد أيضاً

700إحداثية لمعالم ومزارات وحدائق وأسواق الدول التالية : تركيا – فرنسا – سويسرا – النمسا – إيطاليا -ألمانيا

بسم الله الرحمن الرحيم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أيها السادة هذه مجموع الموضوعات التي …

8 تعليقات

  1. جميل جدا أن نشاهد هذه المناظر الطبيعية أتمني لك دوام التوفيق أخوك محمد

  2. صور بديعة عاشة ايدكم

  3. سبحان الله بكت عيني من شدت الجمال

  4. راق لي كثيرا الوصف في المقدمة

    .

    واجب تدويني ينتظركم

    والتفصيل في أحبار مسافرة .

  5. معجبة نسيم نجد

    كم–استمتعت-بمشاهدت-الصور-ووصفك-الدقيق

    جزاك-الله-خيرا

  6. بسم الله

    الاخ نسيم نجد

    السلام عليكم

    ورمضان كريم عليك وعلى المسلمين

    تقرير ولا اروع …

    سرد .. تفاصيل .. صور … احداث .. اكثر من ممتاز

    كل ذلك واكثر قليل في حقك

    اتمنى ان ارى تقريرك في ساحة سويسرا – ترفل مكتوب

    http://travel.maktoob.com/vb/travelarab45/

    .

  7. شكرا جزيلا لك وكاني اعيش معك هذه الرحله والتجربه الرائعه انت مبدع اتمنا ان التقي بك في الاردن مع تمنياتي لك بالتوفيق

  8. جميل جدا وصفك بالفعل عشت الأحداث معك❤❤

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.