عندما تمطرنا الحياة بالهموم !!

عندما تمطرنا الحياة بالهموم

 

كان يوماً شديد المطر في شوارع مدينة بون, فأخذت أسارع الخطى لأهرب من زخاته,  و ذلك حتى أصل بسرعة إلى مقصدي و هو مسجد المغاربة, كان بجانبي صديقي الذي تعرفت عليه هناك, وكان يحاول عبثاً أن يوازي خطواتي المسرعة, ولكن لعله لم يستطع ذلك, فقال لي من بعيد أريد استشارتك بموضوع معين بعد الصلاة فلا تستعجل الذهاب, و بعد الصلاة خرجت فوجدته بانتظاري, و لم أسأله عن الموضوع وذلك لأني أعلم إن كان الموضوع مهماً له فسوف يتذكره , وإن كان ليس مهماً فليس لي الحق أن أطلب منه أن يفتح ذلك الموضوع,  فقد يكون قد عدل عن رأيه أو تغيرت و جهة نظره, مشينا سوياً و بخطوات متسارعة, وكان المطر قد خف هطوله, حانت منه التفاته إلي ,  ثم تنهد بصوت عالي , أنين صوته وصل لقلبي وقطع أوصاله, فقال لي : أخي لقد تقطعت بي السبل وأخذت من الحيرة مأخذها, و صرت بحال لا أعلم نهايتها, و لا أدري متى تنقضي أيامُها, وكلما أحسست بالفرج قد أقترب رأيت الكربة تشتد, وكلما لاح الأمل و جدت الألم يسبقها , وكلما سكنت حالي جاءتها ريح عاصف تدمر كل شيء في حياتي , فلست بميت مرتاح ولست بحيٍ ينعشه الأمل, بل إن نبضات قلبي تطرق مسامير نعشي كل يوم, و أنفاسي تغزل خيوط كفني, آه ما أحر الألم و ما أشد الكربة,  قلت له : سلامات كل مشكلة ولها حل, وكل أمر له علاج, فقال : سوف أحدثك حديثاً فلا تستغربه, وسوف اروي لك حكايتي من أولها حتى آخرها فلا تستنكرها, وسوف أقصها وقد تعتقد أنني أنسجها من خيالي, فلك ما شئت فإن صدقتني فبها,  و إن كذبتني فلك ذلك,  , أمسكت بيد صديقي المحتار فقلت : بل أصدقك أخي , و هل تعتقد أنني سوف أصحب من أشك بصدقه أو أمانته, شد على يدي, ثم قال لا يعلم بهذا الخبر من الناس إلا أنا و أنت فاكتمه علي و لا تخبر أحد عنه, زاد خوفي من شديد حرصه, بدأ المسكين يروي أمره, يقول : لقد قد قررت أن أشكي لك حالتي و ذلك لما زاد ألمي فأردت أن أحسم أمري , و بدأ بسرد حكاية عجيبة , و بدأ يقلب صفحات حياته الحزينة, فاختلطت على وجهه قطرات المطر المنهمرة من السماء و الدموع المتساقطة من البكاء, يمسحها بيده ليخفي حال ضعفه,  هو مستمر بحديثه, يتبسم في مواقف سعادته, ويصمت في مواقف ألمه, ثم يلبث قليلاً بحالة صمت حتى يستجمع قواه ليواصل حديثه, فيواصل حديث الألم, قطعنا أثناء حديثه ما يقارب الساعتين من المشي المتواصل و لم أرد أن أقطع حديث الروح الذي بدأ يبثه, فهو يريد أن يفضفض و بشكل مستمر, وعندما انتهى قال بعدها ما رأيك و ماذا أفعل ؟ و لعلي أصدقكم الحديث , لقد ألجم لساني هول القصة , و أعجزني حرها و شدتها عن الرد عليه, فقلت له و باختصار عليك بأربع , من صدق مع الله صدقه, و من يتقى الله يجعل له مخرجاً, و من لزم الدعاء كانت له الإجابة أو التعويض بخير منها , و من لزم المسجد نهته الصلاة عن كل منكر, عليك بهذه و ألزمها فهي دليلك في حياتك و هي نجاتك بعد مماتك . أطرق برأسه , ثم قال نعم ينقصني في حياتي أشياء كثيرة, و سوف أحاول أن أطبق ما قلت ,  لقد عرض علي المشكلة ولم أفده بحلول جديدة بل أعطيته كلمات بسيطة الكل يعرفها, حتى خفت أنني خذلته في حلي لمشكلته, و قلقت أنني لم أقف معه كما يريد, و لكن كان لطف الله به عظيم فقد أنقذه من مشكلته, تفرقنا بعد السفر و كان الاتصال بيننا عبر الهاتف, و بعد سنة قال لي : هل تذكر الموضوع لذي حدثتك عنه, قلت نعم , قال :لقد سلمني الله منه و رأيت الحياة التي يعيشها الناس و السعادة التي يتغنون بها, فقلت له احمد الله الذي دلك على الطريق الصحيح , و ما هذا إلا بفضل الله سبحانه و تعالى و حسن ظنك به, قال : الآن سوف أعود إلى ألمانيا الأسبوع القادم, و هذه المرة الأولى التي سوف أسافر بها مطمئن القلب,  خالي الهموم,  مستريح البال . 

 

استفدت من اللقاء :

1. الناس عندما يعرضون مشاكلهم لا يريدون حلول مخترعة أو أفكار جديدة,  بل يريدون من يسمع منهم , ومن يفتح لهم قلبه , ويسكن اضطرابهم , و أن يهدئ من روعهم, إنهم بحاجة إلى لمسة عطف , ونظرة حنان , و كلمة لطف,  أكثر مما يحتاجون إلى تفاصل و اقتراحات و حلول معجزة .

2. كم نحن بحاجة لأن نسمع ممن حولنا , و كم ممن حولنا يتمنون أن نلقي لهم بسمعنا , و خاصة أقرب الناس لنا والدينا وزوجاتنا و أخوتنا و أبنائنا و كذلك أصدقاؤنا, فكم من وجه يظهر الابتسام يحمل من خلفه الهموم العظام التي تعجز عن حملها الجبال .

3. رب سماع لدقائق معدودة ينقذ إنسان من هاوية عظيمة .

4. دع الشاكي يشكي شكايته, و لا تقاطعه, و إن رأيت أمراً يخالف رأيك فلا توبخه, أستمع حتى النهاية, وفكر كيف تصل إلى قلبه, فهو بحاجة الرأفة, و هو أخ يحتاج من ينقذه, ثم وجه بما تراه مناسب مع مقاله .

5. من يجيد فن الاستماع فغالباً سوف يجيد فن الإقناع .

6. حدث الناس بما يليق بمقالهم , و أقترب منهم بما تهوى أنفسهم, و لا تلزمهم برأيك, و لا تشد عليهم بموقفك, فأنت مستشار مطلوب منك الإخلاص بالرأي و ليس الإلزام به.

و السلام عليكم ورحمة الله و بركاته

عن سليمان الصقير

محب للسفر والترحال : مؤلفاتي : 1- 800 خطوة لرحلة سياحية ممتعة 2- 150 طريقة ليصل برك بأمك 3- أمي أنتِ جنتي 4- بنيتي لكِ حبي 5- مذكرات مدمن إنترنت

شاهد أيضاً

السفر وقفات و إضاءات

أخوتي و أخواتي الأفاضل.. هذه محاضرة ألقيتها عن السفر عدة مرات خلال هذه الأجازة, و …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.