مدينة بون الخلابة
مدينة بون الألمانية مدينة حالمة من مدن ألمانيا الاتحادية , مدينة صغيرة يخترقها نهر عظيم , وتنتشر من حولها القرى الصغيرة , و الجبال الشاهقة , و البحيرات المتناثرة في طبيعة زاهية , تغطيها سماء صافية لم أشاهدها بحياتي السياحية القصيرة , لم أكن أعلم من قبل أن للسماء هذا اللون , و أن للهواء هذا النقاء , و أن للسحاب هذا الصفاء , أمطارها غزيرة , أشجارها وفيرة , طيورها مغردة , بلد و لا أحلى , و مدينة ولا أجمل .
عندما تتقدم إليها تلحظ من بعيد ذلك العلم الذي يرفرف فوق تلك القلعة التاريخية القديمة , و التي تطل على المنطقة بكاملها , و أعتذر عن عدم معرفتي لأسم تلك القلعة لأن اهتمامامي بالصخور و الحصيان يساوي الصفر أو أقل , بل أن عندي حساسية شديدة لعلم الآثار أشد من الحساسية التي تهبط على سكان الجزيرة العربية وقت لقاح النخيل أو انتشار الغبار عبر الأثير , لذا اقبلوها مني قليلة الدسم خالية من المعلومات, و عندما أشاهد مثل هذا البرج الأثري تعود بي الذاكرتي إلى رحلتي لمصر عندما امتطيت صهوة جواد , حتى أستمتع برحلة سياحية حول الأهرامات , ذلك المكان الذي يأتيه الناس من كل فج عميق , يجذبهم و يستميلهم بعمقه التاريخي , ركبت الحصان و أخذ رأسي يتراقص من فوق الفرس , وأرجلي قد تدليتا من أعلى حتى كادتا أن تخطا بالأرض , بل تمنيت أن يقوم السايس بربط رجلي من أسفل الفرس على شكل و ردة كما تربط علب الحلويات أو الهدايا المعلبة , أتطلع إلى الناس من الأعلى يتفرجون و يبحثون و يسألون عن كل جزئية صغيرة أو كبيرة في اهتمام واضح و جلي , الناس كلهم ينظرون جهة اليمن ناحية الهرم الأكبر باهتمام بالغ , أما أنا فأنظر جهة اليسار لمنظر شدني أكثر من مما قامت به عائلة الفراعنة بأجمعها , إنه منظر الرمال المتجمعة , مشكلة كثبان رملية متناثرة ” أطعوس ” في تحدي بين قوة الإنسان و قوة الطبيعة البكر , إنني في مثل هذه المواقف أعود إلى طبيعة أبن الجزيرة , الذي يتغنى بالصحراء القاحلة و الشمس المحرقة , و يتندر بالتيس اللعوب و العنز الحلوب , و لكن الغريب في أثناء هذه الرحلة في الفيافي المصرية أن المرشد السياحي , زاده الله علماً إلى علمه , ما يأس من تكرار الأرقام الكبيرة و الصغير , و المهمة وغير المهمة , فالهرم هذا عمره تسع ملايين و سبعين ألف سنة و تسع شهور و يومان و عصرية كاملة , وهذا عمره , لا تكمل ….جملة اعتراضية مني , أمنعه بها من أن يكمل استعراض ذاكرته التاريخية على حساب راحتي و نفسيتي و أكمل و اقول له : فانا لا أهتم بهذه الخرابيط و الحصيان المجمعة , أصاب المرشد السياحي الغضب و الحنق من عدم استجابتي و تفاعلي مع غزير معلوماته , فيقول : يعني إيه خرابيط , و يطوي فينفسه أن الأمر جد خطير و أن أثبات الذات مهم ,فيمر بنا على جماعة الفراعة كلهم , أغنع تف , أغنع أوف , أغنع جف وأخنع صف , غنع توت , غنع سن كويك , حمولة طيبة من الفراعنة المعتبرين , و يتبع المرشد بقوله : أنت تعرف أيش السر ببقاء الفراعنة حتى هذا الوقت و لم يتغيروا , أنا : صراحة مأعرف ولا ودي أعرف , إزي ماتعرفش لازم تعرف , حقولك , قل… التعب عليك , أخذ يقول ما يعلم ومالا يعلم , و كأنه يقرأ من كتاب مفتوح , أتوقع لو سخر نفسه لطلب العلم لحصل على جميع الشهادات و مرتبات الشرف بالعالم , و ستمر بالشرح ثم يقول : ياباشا بص يمين , وتأبى فطرتي إلى أن تغازل تلك الرمال و الطعوس جهة اليسار , أعذروني على جهلي و عدم حبي لهذه الأشياء , و ادعوا لي بالثبات
ونعود إلى قلعتنا عندما أجتمع بعض الصحب العرب في منطقة بون سألوني هل قمت بزيارة القلعة , كان ردي تلقائي و بلهجة محلية , وشو له , تبحلقت حولي العيون , وتسمرت الأجسام , وأرغوا و أزبدوا , وكادوا أن يقتلونني , لولا أن الله حفظني بحفظة , الكلمات تتطاير من كل جهة تدل على التأنيب , و قلة الحساس , فتوقعت من خلال الشدة باللهجة أن السائح لابد أن يمر عليها , أو أن يكون قد ارتكب جريمة في حق الإنسانية , قلت لهم دعوني أكمل , قالوا تفضل , أنا أردت أن أقول لكم : وشوله الواحد جاي لألمانيا إلا علشان هذه القلعة , فتم انعكاس بالموقف وتبعه انعكاس بالقبول منهم _ وش إن سوي نبي الستر منهم _ خرجت منهم أجر خطاي , حتى أتخلص من هذا الحمل العظيم , صعدت إلى أول الطريق المؤدي إلى القمة , سولت لي نفسي أن أعود , و ماهي إلا لحظات و تذكرت تأنيبهم وتقريعهم لي حتى آثرت السلامة و استسلمت للأمر الواقع , ثم وجدت عذراً آخر و قلت لنفسي , نصعد إلى أعلى من أجل أخواننا السياح العرب , فنزودهم بتقرير عن المكان بالحرف و الصورة , صورت القلعة من كل جانب , كأني أمضيت كل عمري في تتبع القلاع و الآثار , أوكأني أحد أشهر المصورين العالمين , أصور من أعلى و من أسفل و من كل الجهات , و مع كل لقطة من اللقطات أتمتم بكلمات ” يالله ستر من عندك و أستار من خلقك ” , لدرجة أن بعض اللقطات تتطلب أن يجلس المصور أو أن يقترب من الاستلقاء , و أثناء أحد هذه اللقطات الاستلقائية خمنت أن ذاك الألماني ذو الجسم المتين يتمنى أن يمر بقدميه على ظهري الهزيل , ليسمع طقطقة الفقرات للعامود الفقري لظهر المصور مع كل صوت لفلاش الكمرة , و العذر معه حيث أنني استلقيت في الطريق , ومرادي أن ألتقط صورة من أسفل البرج حتى يظهر مع السماء , و هو في عجلة من أمره , و أنا أستعرض فنون التصوير أمامه في موقع نسيت فيه نفسي , و نسيت أني قد سددت الطريق , لولا أن تطلعت إلى وجهه لأستشف نظرات الإعجاب بي , فرأيته يريد أن يفترسني , فقمت من وضع التصوير الإنبطاحي العالمي إلى وضع تصوير الهواة العادي .
لن أزيدكم بالكلام عن تلك القلعة فهي مثل “الحصيان ” القريبة من الدرعية , بل إن الشيء الوحيد الذي أعجبني هو ذلك المطل الذي يطل على المدينة , وتلك الجلسة التي تضعك وكأنك في برج مراقبة , إنه منظر يدعوا للإعجاب و التأمل , عدت من القلعة إلى الساحة المركزية بالمدينة عبر درج ممتد من سفح الجبل إلى المركز و يأخذ اللون الأحمر حتى تصل إلى المركز .
فهناك الباعة في كل مكان , و محلات الفواكه المنتشرة , و المقاهي التي تصف كراسيها على قارعة الطريق و تحت ظلال الأشجار , فتصبح المدينة بكاملها كأنها حديقة مفتوحة , وعندما تقطع الطريق من جهة مركز البلد متجه للجهة الشرقية من المدينة , فأنت تكون على مقربة من لحديقة المدينة المشهورة .
ولنا في هذه الحديقة ذكريات مع بعض الصحب من الصعب أن تتجرأ الذاكرة بنسيانها أو تناسيها , ولازلت أذكر موعدنا في الساعة السادسة و الربع , عندما نخترق تلك الحديقة فنمر بين المسطحات الخضراء و, الزهور العطرة , و البحيرة الصغيرة , و النافورة التي تتوسطها .
و هناك مناظر تشد المرء أول وهلة ثم تتشبث بذاكرته و يصعب عليه أن ينساها , فإن العجب يتملكني على تلك المناظر و التجمعات في تلك الحديقة , فحول تلك البحيرة تجتمع مجموعة من النسوة العرب أغلبهن من المتحجبات ومعهن أطفالهن , وقد جلست الأم و الأب في جلسة شاعرية يتذكرون السنين الخوالي و أيام الصبا , و يتشاكون الغربة و مافيها من الكربة , كل غارق في آهاته , و همومه , و أفراحه , و أحزانه , و على جانب البحيرة تجد أطفالهم يلاعبون البط المنتشر حول الحديقة في منظر بهيج و عجيب , فمجموعة من صغار البط تمشي خلف أمها , و من خلفهم هؤلاء الأطفال يتابعونهم كأنهم عائلة واحدة …
وفي الجانب الآخر من الحديقة يتواجد مجموعة من النسوة الخليجيات , وقد ذهبن لوسط الحديقة للترفيه عن أنفسهن و أبنائهن في الألعاب المخصصة للأطفال , فالأطفال يلعبون و النساء يتسامرن…
وفي الجزء الجنوبي تجد مسطحات خضراء كبيرة, تنتشر فيه الملاعب المخصصة لكرة القدم و الطائرة , وعندما تلحظ من بعيد تجد ملعبين لكرة القدم ملعب كل من فيه لم يتقيدوا باللبس الخاص بالرياضة , فهذا عليه شورت و لم يلبس جزمة , وهذا عليه جزمة و يلعب بالبنطلون الرسمي و الجاكيت , و هناك كهل هدت السنين من عمره الكثير يحاول أن يلمس الكورة ولو مرة واحدة , هناك طفل صغير أتى مع أبيه يقف في الملعب و قد أصابه الدوار من كثرة ما يتابع هذه الكرة , وهناك الكثير و الكثير من المتناقضات في هذا الملعب كل من في هذا الملعب من العرب و الخليجيين و أغلبهم أتى إلى بون للعلاج…
و من المواقف الطريفة في هذا الملعب , أن أحد اللاعبين من الفريق الألماني المجاور حضر إلينا وهو غاضب , و يرغي و يزبد , ويتكلم علينا بالغة الألمانية التي لا نجيد منا إلا عبارة أو عبارتين على الأكثر , ماعدا أحد الشباب ممن يجلسون معنا من الذين يدرسون هناك فهوا يتكلم الألمانية بطلاقة , فقلنا له اخبرنا ما أمره , و ما خبره , وماسر غضبه , قال أنه يقول أن أطفالكم قد شربوا المياه الغازية التي أحضرتها معي للشرب بعد اللعب ( غريبة إعييلنا مهب عادتهم ) , هدأنا من روعه , و قلنا له أن ضنك في غير محله , لكن هو مصر على الأمر , قلنا له اذهب وتفاهم معهم , تمتم بكلمات لا نعرفها ثم مضى بطريقه ( اتوقع أنه يدعي للعييل إن الله يصلحهم ) أمسكنا بالأبناء وقلنا لهم لماذا اعتديتم على الماء الخاص بالفريق الآخر , قالوا : الأطفال ببراءة ” إحنا عطشانين بالحيل و قلنا صعبة نروح لشقة أو السبرماركت قلنا هالموية القريبة أوفق , بعدين خليه يأخذ أجرنا , والله خوش “, بعد هذا الموقف , وكما هي العادة قبل مغيب الشمس بنصف ساعة , نعود قافلين كلاً إلى شقته , و ذلك للاستعداد لصلاة المغرب ومن ثم الاجتماع من بعد الصلاة في غرفتي غرفة العزوبي العربي الوحيد في مدينة بون , فالذين يجتمعون في الغرفة عددهم ثمان أشخاص , و الغرفة صغيرة فالحل الوحيد أن يجلس بعض الحضور على السرير و البعض الآخر على الأرض حتى يتسنى لنا احتساء القهوة , و الاستمتاع بالتمر و الحلويات التي يحضرها الضيوف مشكورين كتبرع سخي منهم على هذا العزوبي المسكين , لعلها تسد رمقه , أو تسكت بعض جوعه في مشهد يدل على التكافل الاجتماعي بين المسلمين , إنه اجتماع السمر الذي ترتفع فيه القهقهات , و تعلوا فيه الضحكات , و تُسمع فيه الأصوات لكل من يمر بالشارع , ولا تنتهي الجلسة إلا عندما يحين وقت صلات العشاء فنذهب للصلاة , و نعود مرة أخرى إلى الغرفة حيث يبدأ برنامج الألعاب السعودي المشهور بالبالوت , هذه اللعبة التي لا أميز بين و رقها و لا أعرف منها إلا اسمها , فهذا الشاكوش الورقة الغير مرغوبة , و الهاص , و بنت الديمن بنت السبيت وبنت وبنت و بنت الأجواد كثر, و الغريب !! لا يوجد عجوز كما يوجد شاكوش , أو ممكن فيه لكن لأعرفها , لكن أدام الله علي عدم المعرفة بالورقة و العجائز , على العموم هم يستمرون في لعبهم , و أنا أودعهم لأخرج من غرفتي لأذهب إلى مقهى الإنترنت لأبحث عن مزارات جديدة في عالم السياحة , وعندما أعود في حدود الثانية عشر ليلاً , أجد صحبي قد تغيرت أنفسهم , وتبدلت أمزجتهم , فهم في جدال مستمر عن السبب و المتسبب بفقدان الدور , أو الخروج من لعبة البالوت , بل أنها تصل في بعض الأيام على السب و الشتم ( مكلفين أرواحهم ) , في الختام وش رأيكم بهذا البرنامج السعودي , الصبح سعسعه , والعصر لعب كوره , و المغرب جلسة قهوة , و العشاء لعب بالوت , برنامج مرسوم وفيه استغلال الوقت بالدقيقة و الثانية , أنا عندي قاعدة في السفر أهم شيء إنك تكون مبسوط حتى لو تنام أربع وعشرين ساعة , أنت لست ملزم بتطبيق مايناسب الآخرين , فهو ليس بالمؤكد أنه يناسبك , انبسط على قد إلحافك …..
ودمتم برعاية الله
وغداً القريب ألقاكم بمشهد جديد و لقطة أخرى
أخوكم : نسيم نجد
www.naseemnajd.com
روابط بقية الحلقات …