آنسي الفرنسية
منبه الجوال يبعثر أوراق الصمت الذي يخيم على غرفتي…و يعلن دخول وقت صلاة الفجر…قمت فرحاً بانقضاء الليل الطويل الذي يمثل لي وقتاً ميتاً من أوقات الرحلات…فرحت أيضاً بأن أدبر الظلام بآهاته و تساؤلاته…و أنبلج الصبح بأفراحه و مسراته…صليت صلاة الفجر…و أتبعته بالأذكار اليومية كأجمل ما تبدأ به صباحك و أجمل ما يحميك و يحفظك في طرقات حياتك…وضعت الهيتر بخط الكهرباء بعدما وضعت ببطنها القهوة و الهيل…رفعت الستائر فبزغت لي الشمس من مشرقها…نظرت عبر النافذة لعلي أكتشف في صباح جنيف شيئاً يسرني غير الذي رأيته في ليلها….بقايا الظلام تودع السماء…و شعاع الشمس يتسلل إلى أطراف المدينة…و يستأذنني بالدخول إلى غرفتي …نظرت من حولي عبر النافذة فلم يتضح لي ما يمكن أن يضيف صورة جمالية إلى مدينة جنيف المسائية…وقفت طويلاً أتأمل و أطيل النظر….أنظر إلى البعيد ….و أتأمل كيف الناس هنا يعيشون ؟ و كيف هي الحياة بينهم ؟ …أنظر إلى الشوارع الخالية …فهي كرسمة جامدة بلا حياة…أنظر إلى الطرقات و التي تنتشر بها أشجار كثيفة و طويلة …نسيم الصباح في جنيف يحاول عبثاً أن يهز وريقات الشجر و تبؤ كل محاولاتها بخيبة الأمل…و كل الذي يستطيعه هو أن يسقط وريقات بسيطة متمسكة بأغصانها كطفل متشبث بقوة بثوب أمه…تكرر النسمات المحاولات…فلا تزداد مع محاولاتها إلا بإسقاط بعض الوريقات في طرقات المدينة أو على زجاج السيارات الراكنة في مواقفها…أنظر إلى سيارتي و التي تقف في مواقف الفندق…فأتأملها و أعجب بها و بالحب الذي يربطنا ببعض…فلا أعلم لماذا أحب أي شيء تكون بيني و بينه رابطة أو عشرة و لو بسيطة…لقد كانت رفيقتي و عشيقتي التي رفضتها في أول رحلتي….ثم تبدل الحال فصارت هي أنسي و محبوبتي…نظرت إليها من غرفتي و كأنها ترقبني عبر عينيها الواسعتين و تريد أن تلقي علي تحية الصباح….
على صوت القهوة و هي تطيش …خرجت من تأملاتي ….و أنتشر عطرها في أرجاء الغرفة…ذهبت مسرعاً إليها حتى لا تسيل على أرضها….جلست بالكرسي القريب من النافذة و بيدي الفنجال الذي سيعدل المزاج و التمر و بعض الحلوى….فلما حان وقت الإفطار نزلت إلى صالة الفندق…كأول من ينزل من النزلاء…هدفي من ذلك أن ابدأ برنامجي بفطور الصباح الذي من بعده أبدأ برحلتي…مررت على البوفيه المنوع من الفطور…فاخترت مايناسبني و جلست في طاولة في ركن قصي من البوفيه…لقد اخترت تلك الزاوية بعناية …فأنا أحب أن أكون بزاوية أتمكن من ترقب من يشاركني وحدتي …على جانبي الأيسر زجاج مطل على حديقة رائعة …
فالحديقة أزهارها منتشرة… أشجارها وارفه…أرضها مخضرة…الشمس على أطرافها مشرقة…النسمات تداعب أغصان الأشجار…فتهتز الأشجار فتتساقط بعض الأوراق المنتهية و زرعت الحديقة بأنواع متنوعة من أشجار الزينة…. و الأشجار المثمرة… و الأشجار المزهرة…أما أجمل ما أنبتت فهي أشجار التفاح…التي تظهر بكامل زينتها …فهي مصفرة باحمرار …كشمس الغروب …أو كفتاة بيضاء خجول ………بيدي قطع من الخبز التي أخذتها من البوفيه…أغمسها في أنواع متعددة من العسل و المربى و الأجبان….صوت ارتشاف الشاي ظاهر للعيان … أنظر من حولي و النادلة ترمقني بعينيها و تنتظر أن ألقي عليها بأوامري أو طلباتي…دخل معي في أول الصباح عائلة عربية تظهر من سحنة وجوههم أنهم من أرض الشام…معهم أطفالهم الذي أتضح من عيونهم أثر النوم المتأخر …و أنهم قاموا إلى هذه الوجبة بغير رغبتهم….أحسست براحة عجيبة عندما رأيت صورة عربية في وجوه تلك العائلة الشامية…فهم مني و من لحمي و من دمي…و هم من أرضي و من بلدي التي يعشقها قلبي…بل هم أزكى من ذلك فقلبي ينبض بنبضهم و يتوافق مع حبهم …أليس كلنا ننبض بنبض الإيمان …و نشهد بالرحيم الرحمن…و نؤمن بخير الأنام….أفلا أفرح و خاصة أنهم عليهم مظهر الحفاظ عل الدين…. قطعت الخبز و نظرت إلى الصحون فإذا هي فارغة من أي قطعة …لقد أكلت وجبتي و أنا أفكر بمن حولي…التهمت خبزتي بدون أن أدهنها بأي شيء و أتبعتها بالمتبقي من كأس الشاي البارد….نظرت إلى الساعة …وجدت أن الوقت يدهمني…قررت أن أخرج قبل أن ترتفع الشمس أكثر من ذلك….مررت على الاستقبال …و سألتهم عن الحروف المكتوبة لكلمة مدينة آنسي…و ذلك حتى أكتبها في الدليل ( النفيقيشن ) لأصل إليها في أقصى سرعة…ثم رجعت إلى غرفتي و أخذت ترامسي ….و خرجت من الفندق متوجهاً إلى آنسي… بعدما شققت كبد المدينة….عبر شوارعها الفسيحة…و التي نصبت في أركانها صور و تماثيل منحوتة لأبقار بأشكال مختلفة ….منها ماصنع من الرخام…أو الحجر أو النحاس أو طلي بالذهب من الأبقار متعددة الأجناس….بعضها متعدد الرؤوس و بعضها مختلف الأرجل …و بعضها صبغ بألوان مختلطة …أشكال متنوعة ترقد في شوارع جنيف التي لم يكتمل صبحها و لم تشرق بالتمام شمسها….لم تجذبني تلك التماثيل أو الأحجار…فهل قطعت كل تلك المسافات و الديار من أجل أن أنظر إلى أبقار ؟…فقد تركتها في مزرعتنا …هي و علفها و الذباب من حولها….فهل أنا قدمت إلى سويسرا من أجل أن أنظر إلى تماثيلٍ و صور لثويرات و أبقار لم تكن تعجبني على أرض الحقيقة فهل تتوقعون أن تعجبني بصور مرسومة….كانت عيون الأبقار المجسمة تنظر إلي بعينٍ حاقدة عن زائر عيناه عنها زائغة…و عن ضيف لم ترعي انتباهه أسنانها البارزة أو عيونها الواسعة… على الجانب الأيسر من المدينة تتلألأ أشعة الشمس الهابطة على بحيرة جنيف الساكنة…و التي تفر من وسطها نافورة كبيرة هي مشابهة بالضبط لنافورة مدينة جدة السعودية….فتنفث رذاذاً على الحدائق المحيطة بالبحيرة….
حيث توجد ممرات و مسارات للمشاة و هواة الرياضة….فتبللهم الأمطار تارة و رذاذ النافورة تارة أخرى…..و على أطراف البحيرة يوجد عدة زوارق شراعية مركونة….تتمايل عبر نفحات النسيم التي تهب من وسط البحيرة…فترقص رقصة الصبح البهيج….
و دعت البحيرة و كل ما يسكنها من أشكال متنوعة الجمال من الأبقار و السكان…فطلعت من بين عمائر شاهقة ذات طابع خاص و مزدانة بنقوش غريبة …كأفضل ماتبنى القصور الفارهة…الظل الذي كونته المباني الطويلة تجعلك كأنك في ليلٍ دامس وسط النهار….و تصبغ الشوارع بلون السكون و الهدوء….لم أخرج من المدينة و إذا بالحدود مع فرنسى هي على طرف المدينة…بل إن مطار جنيف يقع في الجزء الفرنسي و هو مستأجر من قبل سويسرا كما عرفت من أخي أبو ريان….أقبلت على دراويز مرتفعة قد بنيت بأعمدة من الصبة…فلا أعلم هل هي نقاط تفتيش و جمارك بين الدولتين أو هي أماكن لجمع النقود و الرسوم على الطرق السريعة….أتيت إلى الكونتر و السيارات من خلفي فلم أجد شخصاً أعطيه جوازي…فنظرت إلى الكاونترات عن يميني و شمالي فعلمت أنهم يملكون بطاقات يمررونها على أجهزة فتقرأها…فاحترت ماذا أفعل…فأتى شخص من بعيد و بيده مكينة للرسوم…فمددت كل ما أحمل من …جوازات ..أوراق تأجير السيارة…و نقود…و لوكان معي صور شخصية أو صورة لصك أرضي في السعودية لأعطيته…فنظر إلي نظرة …فتبسم فأخذ النقود و أعاد مابقي من الأشياء…نعم تبسم….إن بريق الدينار و لمعان الدرهم يغني عن كل الأوراق….عبرت الحدود فعلمت أنني في الأراضي الفرنسية و لك عندما تغيرت اللوحات في أشكالها و الطرق في رصفها…
و بدأت المناظر كذلك تتغير مع ارتفاعي إلى أعالي جبالها….في طريقي إلى آنسي كانت المسافة 45 كيلوا استغرقت بعبورها قرابة الساعة إلا ربع….و المناظر تزدان والأمطار تتساقط….
حتى و صلت إلى تلك المدينة و التي بدت بسيطة….و ورقدت بجانب بحيرتها الشهيرة…لتلك المدينة سمة بارزة لمن يدخلها أول مرة…و هي البساطة الظاهرة…..من بعيد أشاهد البحيرة الممتدة بلا حدود….و تحيط بها الجبال من كل الجهات ….و تخوض بوسطها العبارات و السفن الشراعية….
هذه البحيرة تنتشر علي شواطئها المدن و القرى المتعددة….و تقبع على جبالها القصور المطلة…و تركن على ساحلها الاستراحات الخاصة…و يحجبك عن البحيرة في بعض الحيان غابات كثيفة …و تمر بطرق ضيقة تمر بك بمحاذاة ساحل البحيرة…ثم تبتعد بك الطرق عنها …و تشاهدها من بعيد…
و هكذا دواليك كأنها تسقيك من كأسها جرعة ثم تحرمك منه مرة …تتفرع الطرق بكثرة باتجاه البحيرة…فكأنها أنهار تتجه إليها…فعندما تتجه من أحد تلك الطرقات الفرعية
و تسلكه فسوف تصل إلى الشاطئ …
فهناك ستجد عالم آخر….مرسى و أناس و بيوت و مشاهد تسرق الألباب….فتشاهد البحيرة و على أطرافها الخضرة المنتشرة…و من خلفها الجبال العالية …و تنعكس صورة السحب التي تحوم في السماء ….فتارة تضحك السحب …و يبتسم ثغرها…. فتشع الشمس من بينها …أو تصمت و تغلق فمها فتمطر السماء لحزنها……لا تمل أبداً من تأمل تلك المناظر و لو جلست الساعات الطوال…….
بعدما أخذت جولة كاملة على البحيرة من بدايتها حتى نهايتها استغرقت قرابة الساعة و النصف…. توقفنا بجانب حديقة كبيرة فيها أناس في حركة دءوبة …. و وجدنا لوحة تشير إلى أماكن استئجار و ركوب البحر عبر رحلة بحيرة …. تذهب بك برحلة تمر على كل المدن المحيطة بالبحيرة ….
و تتوقف لمدة معينة لا تعدوا دقائق معدودة عند كل محطة فتنزل من يريد تلك المدن و ينظم إلينا أناس جدد…قررت أن أنظم إلى تلك الرحلة…فوقفت بجانب البحيرة أنتظر أن يمر بنا المركب السياحي لنبحر في عباب البحيرة….
الجموع المنتظرة كثيرة …فلما قدم المركب إنسابت الجموع متدفقة إلى داخله….أخذت مقعدي من بينهم…جلست أتأمل الناس و هي تتدفق….فكأننا في ساحة يستعد الجميع فيها لحفلة سعيدة ….الجميع يظهر بأفضل مظهر….شبابٌ و شيوخ …. رجالٌ و نساء …صغارٌ و كبار…بل أكثر من ذلك قطط و كلاب ….و كلهم يتزينون بأكمل زينة… شاب يربط عنقه بربطة و بجانبه فتاة عمره….شيخ هرم بيده مظلة و بجانبه عجوزه المحترمة…..طفل صغير عيناه مزرقة و بيده حبل فيه قطة….همسات و كلمات و بسمات و ضحكات….هو الجو الذي يسود مركب الأحلام….الأمواج البسيطة تحاول عابثة أن تهز من هدوء الركاب أو أن تغير من حركة المركب ….
جلست في ركن من ذلك المركب …و عيناي تتقلبان بين السياح…لا أعلم لماذا يداخلني أحساس العائلة الواحدة عندما أكون بمثل هذا الموقف…فعندما تقلع بي طائرة أو ينقلني قطار أو اركب حافلة أو أتجول في سفينة…أحس بأن أعرف من حولي…و تربطني بهم علاقة غير عادية…تهمني تقاسيم وجوههم…فأتمنى أن تكون دائماً مبتسمة و أن لا يباغتهم منظر الحزن أبداً…لا أعلم هل أن غرف السفر الصغيرة في وسائل النقل…تجعل القلوب تقترب أكثر فأكثر….هذا هو شعوري…لذا تجدني دائماً أنظر بنظرات عميقة لمن حولي…فعندما تهتز قلوبهم نتيجة أي اهتزازة أو حركة غير طبيعية في المركب…فإن منظر الخوف يسكن نفسي قبل نفوسهم…و عندما تظهر ابتسامة على محيا من حولي يسعد قلبي لسعادتهم….و إذا وجدت إنسان تحيط به الهموم أجد أن زلزال القلق يهز أركاني….لا أعلم هل هو شعور من الجميع أو أنه شعور يكتنفني لوحدي…
بدء المركب يبتعد شيئاً فشيئاً عن الرصيف….و النسمات تهب علينا في داخل الكبينة….الركاب متنوعون في هذه الرحلة ..البعض ممن كانت هذه رحلته الأولى…تجد عيناه معلقة بالنوافذ و باهتمام…
فلا تكاد تمر من أمامه شاردة أو وارده إلا أشبعها بنظراته…و أطفئ نار فضوله…فهو ينظر و بحرص لكل المناظر… و يدقق بأدق التفاصيل….أما من كانت هذه الرحلة هيرحلة للرومانسية يتذكر فيها ذكريات بعيدة أو يعود فيها إلى الطبيعة….فإن هذه الرحلة تذكره بلحظات التقاء بحبيب…أو دقائق قضاها مع صديق ….أو وقت صفاء مع عزيز…و بعضهم يأخذها من باب التسلية و الترفيه ….
السفينة مقسمة إلى قسمين ….الكبينة و سطح السفينة …و الركاب يتنقلون بينهما….و يحملون معهم بعض المشارب و المآكل التي يتسلون بها….أما ذاك الشاب العربي فهو ينظر للبعيد…و كل همه أن يلتقط صورة لمنظر جميل … و تخزن نفسه مافيها من الحسن و تستلهم العبر…
إنك عندما تبحر في تلك البحيرة ….تعيش في عالم آخر…تعيش بين جبال كأنها تحتضنك بحسنها…تلتقي أعاليها مع زرقة السماء فيها …و ترتبط بأسفلها مع زرقة البحيرة على أطرافها…
أشجار الصنبور بشكلها المتدرج تمتد شامخة كقطع متجاورة…تكسي الجبال بالجمال…
و من تحت تلك الجبال أكواخ مرسومة بأكمل صورة….أما على أطراف البحيرة فهناك للجمال حضور….
صياد على الشاطئ بيده سيجارته و يلقي في البحيرة سنارته…….يهتز حبلها فيركض من أجلها و السعادة تسابقه لها…يسحبها بسرعة فتنطلق السمكة من قبل أن يظفر بها….ثم يعود إلى صخرة قريبة من الشاطئ فيجلس ينتظر أن يثور حضه مرة أخرى…تمتد يده و ببطء إلى سيجارته فيشفطها بقوة…حتى تحمر …و تصل الشعلة إلى فمه…فيسحب جميع دخانها ثم يرفع رأسه و ينفثه بالهواء ..فتتكون حلقات متطايرة تعبر عن نفس ضائقة…
أما هناك و على فراش أخضر مفروش…تجد أناس يسبحون و بماء البحيرة يتبردون….طفل صغير يقترب إلى البحيرة…فيأتيه موجها ثم يهرب مسرعاً خوفاً منها….نمر بجانبهم فيسرهم مرورنا فيلوحون بأيديهم من أجلنا….
و على مرتفع قريب يقع قصر معمور…كقصر تاريخي مهجور…يأتيه الزوار من كل مكان و يتعبرون بقصص من كانوا يسكنون تلك الدور….يستمتعون بجميل بنائه و يتأملون كيف أنقضت أيامه …أغلب زواره من كبار السن …يزحفون ببطء على درجات متهالكة من ذلك القصر…يتأملون جدرانه و يصعدون لمرتفعاته و ينظرون عبر نوافذه…
على الجانب الآخر من البحيرة هناك …مسطحات خضراء…قد أنتشر عليها جمع من الشباب…يتقاذفون كرة بينهم….تملئ أجسامهم القوة و يركضون بهمة ….و أغلب وقتهم لم يستمتعوا به فإما أن تعلق الكورة بالشجرة …أو تسقط بالبحيرة …أو تتسبب بإشكال لمن يستمتع من العوائل من حوله .
أما في تلك الحديقة فهناك المناظر البهيجة….و أكثر منظر يسر النظر…هو منظر أعجبني و زاد من عجبي بهذه المدينة الصغيرة…و هو منظر الأطفال المنتشر و بكثرة…فتجد شاب و زوجته يمشيان متماسكي الأيدي…و من خلفهم أطفال ثلاثة أعمارهم متقاربة…أب يحمل طفله …و أم تدفع عربة …و طفل يتعرث بخطواته….لعل نار المدنية التي تؤمن بقتل الحياة …و تعتبر أن الإنجاب من حبس الحريات لم تصلهم…و لم تمتد يدها لتغتالهم…و لم تسكن بحيرتهم …لذا إن أبهج منظر رأيته هو الكم الهائل من الأطفال …و كذلك الزوجات الصغيرات ممن يحمل الصغار…فعجبت من تلك المناظر…فإذا كانت الزهور تنشر عطرها في الفضاء فاللأطفال هناك عيون تقلب الحزن في النفوس إلى سعادة….و جوه تسكنها البراءة …من على وجه أبيض دائري و من خدين محمرين و من وجنة متسعة يهبط عليها شعر ذهبي و يرتكز في وسطها أنف ممشوق و تسكن على جنبيه عيونٌ بديعة تتكون لديك صورة جميلة لطفلٍ بريء….فكل طفل هناك يحمل لوناً مختلفاً عن بقية الأطفال ….إما عيونٌ زرقاء أو عيونٌ خضراء أو عيونٌ عسلية….و كل تلك العيون ترقبها عينان عربيتنا سوداوان…. إذا كانت الطيور تغرد بالسماء و تصب أجمل الألحان…فصوت الأطفال يحلق بالقلوب سواءً بالضحك أو بالبكاء…و إذا كنت السماء تصفو و الأرض تزهو …فقد أزداد صفاؤها و بهاؤها ببسمات و حركات أطفال أشقياء…هناك و في تلك الحديقة تحس بأنك في حديقة عائلية كبيرة….بل قل إنك في روضة أطفال…
على مفرش بسيط تجلس عائلة مكونة من أب و أم بينهما ابن و بنت…و حولهما بقية أطفال…الابن في سن المراهقة و البنت قد بدت ناضجة…الابن يحاول أن يتصرف بتصرفات مستقلة عن أبيه فتجده يذهب بعض الوقت تحت الأشجار و ينظر لمن حوله باهتمام و يكلم بعض الزوار…
و الفتاة تعيش شيئاً من الرومانسية فتتجه نحون الأزهار و تغمض عينيها و تتطلع إلى السماء فكأنها تنتظر أن يمر بها فارس أحلامها على حصانه الأبيض فيمسك بيديها…و الأم مشغولة بأطفالها الصغار فطفل تلقمه الرضاعة و آخر تغير من غياره…..و الأب يتابع كل شيء باهتمام….و مع ذلك يقوم بتقليب شواءٍ على موقد قد وضع بوسط الحديقة الخضراء تلتهب ناره…و صفت اللحم على أطرافه…و انبعثت منه رائحة الشواء فتملئ الأرجاء …و قد نشأ عمود من الدخان حتى و صل إلى السماء…..عشرات المناظر تسطر على ضفاف تلك البحيرة…أتقدم من سطح السفينة و أقف على الباب الذي يفصل الكبينة عن باحة السفينة….وقفت و ذهني شارداً للبيعد يتأمل ماتحتويه تلك المدينة من المناظر الجميلة….السفينة تتهادى في حركتها….
و الجبال تقف بصمت بعظمتها…و الناس في السطح المكشوف يتمتعون بالهواء الرطب الذي ترسله البحيرة….فتتطاير شعورهم الشقراء و تبدو للمشاهد كرقص صامت على أنغام نسمات الهواء…الأطفال في الساحة يجولون بينهم كورود تعطر المكان…فيصل شذاهم إلى كل الأجزاء وهم يتنقلون بينهم….
طيور النورس ترحل معنا و تتابعنا…..وقطع السحاب التي تملئ الأفق بألوانها البيضاء الشفافة تلامس الجبال فيكون الكون كأنه بصالة بلورية مغطاة بغطاء ابيض جميل….
تطل الشمس كل حين لتطمئن على زوارها السائحين…و تختفي بين أركام السحب بعد أن أرسلت جرعة من دفأها الحار عبر أشعتها الذهبية…..يختلط بالكون الضباب مع السحاب….و يختلط الرذاذ مع قطر المطر…و نعيش أجواءً متغيرة كفصول السنة…..
يقطع علي هذا التأمل لهذا المنظر صوت قارب صغير يمر من جانبنا بسرعة …يحمل عائلة في نزهة بحيرة ….يلوحون بأيديهم معبرين عن تحية يلقونها لهؤلاء الذين تحملهم سفينة الأحلام…يهتز القارب الصغير بفعل موجات السفينة …مما يسبب الذعر لركاب القارب فتختلط أصوات الترحيب بأصوات الخوف…ثم هي لحظات حتى يخفت الصوت معلناً عن نهاية قارب قد مر بسلام من بين أيدي تلك المركبة الكبيرة …..
على أطراف البحيرة ترقد قوارب عدة…صغيرة و كبيرة…بعضها أعد للصيد و بعضها أعد للنزهة….أهل تلك الديار يعيشون أغلب وقتهم في بحيرتهم…يخرجون من الصباح مع شروق الشمس…و يستمتعون بقضاء يومهم هناك…ثم يعودون آخر اليوم و تستقبلهم الأرض بالجميل من الزهر….
يعيشون بين طبقات أربع…ارض خضراء و بحيرة زرقاء و جبال شاهقة بالشجر مكتسية و سماء صافية فيها شمس منيرة أو سحب سائرة ….و أنا أقف في تأملاتي على البوابة الفاصلة بين جزئي السفينة…
لمحت عجوز تنظر إلى باهتمام…و ترقبني بحرص زائد…كأنها تريد أن أرعيها بعض من لحظاتي…جَلَسَت على كرسي في الباحة…و بجانبها كرسي شاغر….على وجهها ابتسامة ميتة ….تخرج و بمشقة من بين أسنان ناقصة….تختلط تجاعيد الابتسامة مع تجاعيد الزمن الباقية على دائرة الوجه لتشكل لوحة يقشعر منها البدن….تنظر إلي من عينين زرقاوين جافتين….فيما يحاول الهواء القوي عبثاً أن يحرك بعض شعرها …فييأس….تحاول أن تستخدم لغة العيون لتغري الفتى العربي المزيون…و ذلك للفت انتباهه أو أن يعطيها بعض اهتمامه…فتتحول العيون الزرقاء إلى عيون متقلبة كمن أصابته سكرة الموت فجأة….لقد احترت في أمرها ….و زاد لي نظرها….ثم تجرأت أكثر فأشارت إلي بيدها ….و بدأت تتمتم بلغة أحس من بغبغتها أنها فرنسية….استمرت هي بلغة البغبغاء و لم تنجيني حركات الإشارة من فهم مقصدها….التفت كل من على سطح السفينة إلي….لا أعلم ماذا تريد …و إلى ماذا ينظروا هذا الجمع ناحيتي….يا إلهي لعلها شبهت هذه العجوز علي هذا الشاب العربي…فذكرها بفتى أحلامها…..أو لعلها ثملة فمسك في مخها هذا الذي وقف و قد أمسك خصره…أو لعلها أمٌ فتذكرت ابنها الذي غاب عنها في سني عمرها…..لكن الذي يجعلني أرد كل التساؤلات…أن ملامحي لا تحمل أي شكل من أشكال الفرنس…بلا لا يظهر من مظهري إلا أني كبدوي جاء من الصحراء…حاول جاهداً أن يشتري من أمواله ما يزين به مظهره و يبدي جماله….فقد لبس قميصاً بحرياً يقارب للون السماوي و فتح بعض الازرة فبدت من فتحته بعض صدره الأسمر و ما يخفي القميص أعظم مما عبثت به يد الطبيب الشعبي من أوسام مختلفة من فنه الذي تعلمه على صفحة صدره…يخرج من أطراف ذلك القميص يد غيرت الشمس من لونها….حتى تتدرج بالبياض من أسفلها إلى أن تصل إلى كم قميصها…و أتبعه ببنطلون جنز متموج من الغامق إلى الفاتح ليوافق الموضة …ثم أحكم ربطه بشدة بحزام من الجلد الأبيض ….فانقسم هذا الشاب إلى قسمين علوي غامق و سفلي متموج فأصبح كملتقى البحيرة مع زرقة السماء….أفقت من تفكيري على خبطة على كتفي…كادت منها أن يسقط رأسي ….فنظرت من قام بهذا الفعل…فوجدت رجل مشين يكاد أن يحجب الفضاء من حولي….وجهه أحمر مبقع بنمش منتشر …و يحمل رأساً كبير يرقد على أكتاف عريضة….و لا تكاد أن تشاهد له رقبة…و تخرج من أطراف تلك الأكتاف اعضاد عظيمة….كأنك و أنت ترى عضديه كأنه يحمل طفلين معاً ….بغبغب كما بغبغت العجوز الحسناء…و لعله يقول هو وهي…يا لك من فتى… لقد وقفت بدربنا و سددت الطريق علينا…فعلمت أن العجوز تريد مني أن أفسح الطريق لشيبة أحلامها…مضى و هو يبتسم ابتسامة صفراء تذكرني بابتسامة الرجل الثالث السمين من الرجال الثلاثة من أفلام الثلاثي المرح….بحركة اشمأزت منها نفسي جلس بجانب العجوز الشمطاء….فصار كشابين مراهقين …..عدت بعد ذلك الموقف للجلوس فقلت في نفسي لقد سلمت هذه المرة…و ليست كل مرة تسلم الجرة .
اقتربت السفينة للمرسى…و هناك سوف تكون وجبة الغداء….عبرت جسراً يمتد من فوق النهر…و قد اصطفت على جوانبه مجموعة من المحلات التي تعرض الزهور ….
و لوحات فنية رسمت بأيدي شباب يحلمون أن تكون لهم شهرة عالمية….نظرت إلى الرسومات…فوجدت أنها لخيول تحمل أجنحة أو عصافير لها أرجل حمار ( يازين العقل )….أو عربة تسحبها قطة….أو صورة رجل مهيب قد جمع شعره فجدله….يحاول البائع أن يقنعني أنه رسام ماهر و أنه ينتمي إلى مدرسة فنية عالية و أن مستقبله زاهر…و أردد عليه بصوت يسمعه و لا يفهمه بلغة عربية …نعم لك مستقبل في رسومات الفن الحماري على هذه الصورة التي تربط بينك و بين الجمال و الحمار….أدبرت من عنده و هو يتمتم بكلمات ( شكله يقول ….طيب كلمة و لو جبر خاطر )….
قابلني رسام آخر…. قد قام برسم شخابيط عديدة أفضل بقليل من شخابيط ابنتي الصغيرة…و كل ما اسمعه منه ….فان كوخ…كوخ …قلت له لو يعلم كوخ برسمك لشنق نفسه من قبل أن يقضي عليه الموت قهراً من تجاهل الناس له….و من عبث الناس من أمثالك من بعده….
( ملاحظة هذه رسمة لطفلتي الصغيرة في المرحلة الأبتدائية …صورتها من كراستها….فحقوق الطبع محفوظة للأميرة )
مررت من بين الورود المنتشرة على الطريق…و المطاعم التي اتخذت من الرصيف مكاناً لروادها …و تنتشر الكراسي متراصة …و الناس من حولها ينتظرون من ينهي وجبته ثم يحلون مكانه…..
اتخذت مكاناً من بين الجموع….كان الجو شبه حار بالنسبة لهم…و لطيفاً لأمثالنا…ممن تعود على شمس نجد اللطيفة….
جلست بين الجموع و كل منهم بجانبه عشيقته….فصرت من بين تلك الوجوه الوردية كحبة خال مميزة في وسط وجوه كالقمر نيرة….جاءت النادلة…أعطتني القائمة….الأسماءمتشابهة….و لا ينقذك إلا الفش ….فهي وجبتي المضمونة و بالحلال معلومة….تفشفشت ثم لعصير التفاح طلبت….و بأحد أعواد السمك تنقشت….و في لحظات من المطعم خرجت…كأسرع من أكل وجبة في آنسي الفرنسية…..أحسست براحة بعد وجبة الغداء….فقد أحسست أنني أنهيت هماً و قطعت جزءاً من برنامجي يشغلني… فأنا آكل من أجل أن أستمر بالحركة …و ليس من أجل المتعة…آكل حتى لا تخور قواي و حتى لا يتوقف جسمي عن الجري الذي يبدأ من طلوع الشمس من المشرق حتى مغيبها من جهة المغرب….أعتقد أنني أفضل زبون لدى ذلك المطعم في ذلك اليوم….
ألقيت بنظرة على البحيرة…وزعت نظراتي على تلك الجبل….إنسابت نفسي عبر النهر…..حلق قلبي عبر السحاب…..نبضات قلبي تتقافز لتعزف لحن النهاية….فلما حانت الناهية… جمعت كل مشاعري و حواسي….أعدت نظري البعيد….لملمت تأملاتي السابحة …جمدت مشاعر السائحة …أدخلت نبضاتي في قفصي الصدري ….تقاصرت نبضاتعزف الحب الخالدة …و بدأت نبضات معزوفة الوداع الحزينة….مشيت و قد وضعت البحيرة من خلفي و وضعت فيها شيئاً من حبي….بدأ جسم ذلك الزائر يصغر حتى بدأ يختلط مع الناس الذين يزدحم بهم المكان….ثم اختفى فجأة ….لملمت الشمس أشعتها و غدت كقرص مستدير أحمر…و رقة تسقط من شجرة بفعل نسمة …تذروها الرياح و تلقيها في البحيرة ….و تنتهي ورقة من ورقات بحيرة آنسي الفرنسية …و إلى اللقاء و للحديث بقية .
فنلقاكم في الحلقة القادمة و مع أرض العشاق انترلاكن…فانتظرونا
جزاك الله خيرا على هذه المدونة المفيدة
أعجبتني وأعجبني قوة إيمانك
بارك الله فيك
تبارك الله ماذا علني أقول …
حديثك كسى الصور جمال وتألق …