الــــنـــهـــايــــة
من خلف الستار
قصة بحار
قال لي أبي و هو يناولني ناياً صغيراً من العاج : إليك هذا…خذه و لا تنس والدك العجوز عندما تُسعد الناس بعزفك في بلاد غريبة….فلقد حان الوقت لكي تشاهد العالم و تكسب المعرفة . فأنا طلبت صنع هذا الناي من أجلك ….لأنك لا تعشق سواه….و لا يطيب لك إلا أن تغني دائماً…و لكن تأكد دائماً أنك تختار الأغاني المشرقة المرحة….و إلا الهبة التي أودعها الله فيك مدعاة للأسف ) كان أبي العزيز لا يحمل الخبرة الكافية في الموسيقى …. و يعتقد أن كل ما ينبغي علي أن أفعله أن أنفخ بالناي الصغير اللطيف….و لا أزيد على ذلك …و لم أكن أريد أن أبدد حلمه… و لهذا شكرته و وضعت الناي في جيبي….و شرعت بالرحيل… هكذا استهل الروائي العالمي هيرمان هسه قصة أحلام الناي… و هو الحائز على جائزة نوبل العالمية وهو ألماني المولد سويسري المنشأ و الجنسية …فقد ترعرع بين أحضان مدينة بيرن السويسرية بعد أن رحل إليها في وقت مبكر من عمره…لقد بدأ روايته القصيرة بهذه الكلمات…و التي تحكي قصة طفل يتجول في الأرض لينشر السعادة و هو ينفخ بالناي أثناء تنقله بين الغابات و المروج و الأنهار…فيلتقي بفتاة رائعة الجمال …يغني لها و تطعمه…و لكنهما يفترقان وسط أزاهير العشب و الجبال و الخضرة…. إن الكاتب في هذه القصة كأنما أراد أن يحكي وضعي ( نسيم نجد ) معكم ..و كأنه هرب مثلي من أرض الألمان الكئيبة ليعانق الطبيعة في الأراضي السويسرية الجميلة ….و كأنه يعنيني بسعادة الطفل الصغير و هو يسعد العالم ….و كأنه ينظر إلي و أنا أستعد لأفارق لطفكم…و أغرق في بحر فقدكم…و يمزق الحزن أشرع قاربي الذي يوصلني إليكم….و تحطم الأمواج مجاديفي التي تجعلني أرتبط بشاطئ حبكم… لقد اختلفت الوسائل… و تشابهت الغايات ….فتطابقت النهايات …لقد أبحر ذلك الفتى الصغير بقاربه في النهر و أبحرت بحروفي على السطر…هو ينتهي إلى البحار و أن أنتهي إلى القلوب….نعم لقد أمرتني نفسي أن أبحر بالنفوس …و أن أجري بالعروق… و أن أصب في القلوب…لقد خلقني رب أن أكون محب للإبحار…محباً للوصول للنفوس…سعيداً بسعادة من حولي….لقد شققت كل طريق …و عبرت أصعب مضيق ….و ناديت بأعلى صوت… و حاولت و حاولت…ثم تساءلت ..هل وصلت ؟… أو نجحت ؟…لا أعلم و لكن الذي أعلمه أنني بذلت. لقد نفخت من أنفاسي بالناي لتصل لكل مكان …أنفث من صدري نسمات… هي من روحي كلمات …هي من قلبي نبضات أبثها لتصل إلى أذن كل محب …أرسلها وإن لم تكن كما أريد …و لكنها نفحة من قلب صديق . لقد عزفت بكل ما أوتيت من مهارة حتى تقطعت أوتار القيثارة…فهل أسمعت صوتاً ندياً… أو لحن شدياً ..أو نغمة موسيقية….لا أعلم و لكن كل الذي أعلمه أنني كنت لحبكم وفياً .
قصة البداية
لقد بدأت كتابة هذا الموضوع في ألمانيا العام الماضي…فوجدتكم معي في غرفتي في غربتي …بعد أن كادت أن تغيب سعادتي…و بعد أن أحسست أني وحيدٌ في أرضي… فوجدت كلماتكم التي تشجعني …و تشد من أزري …و تخفف من وطأت الحزن في صدري…فرغم أني كنت أقف وقفت الشموخ… و لكن أحس أني جسم بلا قلب … أو قلب بلا روح…أو روح بلا مشاعر.. فلما وجدتكم بجانبي وقفت بقوة حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً .
كم من المرات نظرت إلى البعيد فوجدت بصيصٌ من نور يشع من حولي….فلا أعلم هل هو ظلامٌ ليطمس كل نور ..أو نورٌ أسفر ليطرد أشباح الظلام….هل هو غروب ينذر بنهاية أحلام….أو هو شروق يعلن بفتح باب الآمال…فأقلب عينيّ بالكون …فأجد رسماً يشبه رسمي….و نبضاً يماثل نبضي…و أنيناً ينطلق من غيري و هو يعبر عما في صدري…و حزناً يقتل صحبي و هو حزناً على حزني…فأقف مندهشاً من هؤلاء الذين يقفون معي و لا يفارقوني حتى يعلموا أمري…و يجدوا جواباً يتردد بالكون من حولي…هل هي شمس أملي أو مغيب شمسي…فشكراً لكم أن وقفتم معي…فليس مستغرب عليكم فأنتم أخوتي …
قصة رحال
في رحلتي معكم و التي استمرت أكثر من تسعة أشهر…أعلم أنني لم أصل لمراد نفسي… و لم أكن بتطلعات نفوسكم…و لكن كنت أغض الطرف عن ذلك لأني أخاف أن أفقد نظر عيونكم …و كنت أخشى أن أسقط من ورقات أيامكم…و كنت قلقاً من أعراضكم عن حروفي…و وجلاً من أن تذهبوا بلارجعة عن صفحاتي…فكيف لا و أنتم بالنسبة لي …لقاءٌ موعود …و أملُ منشود …. و حبٌ بلا حدود …فمنكم تعلمت الأمل …و منكم خف عن نفسي الألم …و منكم بدأت أمسك بالقلم ….و من أجلكم التقطت أجمل الصور…
كانت أرضي يابسة …و تصدعاتها ظاهرة …و حاجتها للماء حاجة ماسة ….فكان أول الغيث منكم قطرة ….ثم لم يتوقف المطر إلا و أرضي أرض خضرة ..فهل تلوموا قلبي أن أحبكم ؟
أنتم مطرٌ منهمر …يسقي أرضي العطشى فتنبت بأفضل الزهر… كتاباتكم تزيل كل هم… و تمحوا عني كل غم …و تنبت لي كل أرض…و تنير في أعماقي كل طريق….
أنتم مطر لأرض جافة…سحابة في سماء صيف صافية….واحة في صحراء قاحلة….دوحة في أرض لافحة…ظل في شمس محرقة…نور وسط ظلام دامس…سكون في قلب مضطرب…أمل في نفس يائسة….شفاء في جسم يتألم…أنتم كل الحسن….بل الحسن أنتم و له الفخر…
قصة عاشق
قد تتشابه الأرض على ساكنيها… و قد تختلط الأزهار بعيون ناظريها …و تختلف الروائح الزكية على متذوقيها…أما أنا قبل أن أعرفكم…فكانت الأرض بنظري واحدة …و الأزهار متشابهه… و الروائح النفاثة إلى قلبي غير نافذة …فلما عرفتكم و رأيتكم ….و صافحت عيوني ردودكم… اختلفت عندي الموازين و انقلبت في عيني النظرة و تغيرت في عقلي الفكرة …
فصار كل شيء بالكون جميل…فانساقت كلماتي خلف كلماتكم…و سالت مشاعري في وديان حبكم….فصار للزهور رائحة مختلفة …و لون مختلف …و شكل مختلف…رغم أنها لم تختلف عن قبل…و لكن تبدلت المشاعر التي بدأت تحسها من جديد …و بدأت تشعر بها من جديد…وبدأت العيون لنظرتها تعيد….فصارت الدنيا كلها بمظهر الجمال…و الكون كله يغرد و يصدح بتغاريد الحب ….فأنتم جمعتم كل الألوان…و أختبئ بأطرافكم كل الحسن…و احتويتم كل العطر…فمهما اختلفتم أو تنوعتم فأنتم بلسم النفس و بهجة العين و القلب
فماذا عساني أن أقول إلا : أسعدكم لله كما أسعدتموني…. فالناس يسعدون عندما يسعد من حولهم…. أما أنا فكل سعادتي أنتم…و الناس بأفراحهم يُسرون…. أما أنا فبمروركم أكثر فرحاً…. و الناس يحزنهم دنياً تصيبهم أو هماً يغشاهم… و أنا يحزنني بعدكم عني… و الناس يؤلمهم عارض يبغتهم …و أنا يؤلمني أعراضكم عني…. و إذا كانوا يفكرون بما يفرحهم فأنا أفكر بما يفرحكم… و إذا كانوا يتمنون أن يصلوا إلى مرادهم …فأنا كل مرادي أنتم…فهل و صلت لقلوبكم ؟
قصة حب عاصف
لقد كان حبكم جارف…لقد كان حبكم عاصف….تصغر أمامه كلماتي….و تغيب تحت قوته صفاء سمائي…و تنسحب من ثورته سحب حياتي….فلا القطرات قادرة على إيقاف ردودكم الثائرة…و لا النسمات قادرة على الوقوف في دروب متابعتكم الدائمة….فكل الموازين ترجح كفتها لكم…و كل الكلمات تعجز عن شكركم…و كل الحروف تبحث عنكم لتشير إليكم و تقول : لقد أحسنتم معي فأحسن الله إليكم .
قصة حب بعيد
إن عبرتم فاح شذا عطركم….و إن غبتم فعيناي ترقبكم….و إن كتبتم فقلبي يحفظها خطكم…و إن تجاهلتموها…فأعلم أنني قد أحزنتكم…فأعتذر إليكم….فإن قبلتم عذري فقد تعودت على كرمكم…وإن لم تقبلوه….فيال صبر قلوبكم على خطأ المقصرين من أمثالي معكم …فأنتم الكرماء في كل حال …و أنا المجتهد المقصر معكم
قصة حياة
إن أيامي معكم هي حياة…حياة جميلة تختلط فيها آهات و بسمات كشجرة عظيمة…ساقها و عمادها الأمل …أغصانها التفاؤل…و أزهارها الحب.. و أشواكها الحزن و الألم…تقوى جذورها ببعد الحبيب…وتنموا بدموع الفراق….فتؤتيهم من ظلها…و تطعمهم من أطيب ثمارها….و تفوح عليه أزكى روائحها ….إن حياتهم لها فصول…فسني عمرهم الزاهرة هي أوقات الربيع …و أيام عمرهم الحزينة المدبرة هي أيام خريفها….و أيام صبرهم هي أيام صيفهم اللافحة….و أيامهم القاسية هي أيام شتاءهم الباردة…..إن تقلب الحياة يرسم للفرح و الحزن منظراً أجمل….فمنه الكمال يظهر….
فماذا بظنكم أن أكون بعدكم؟…هل سوى أشجار بلا ورق…أغصان بلا زهر…شجرة عارية تهزها أي نسمة عابرة.. دنيا خلف الظلام تغرق….و شمسٌ خلف الأفق تنطفئ… وظلام بالكون يتربص…
قصة حائر
كنت أرقبكم كل حين…و أمشي بخط ممتد على طول الأفق…و أخاف أن تغيب شمسكم عني…لذا تجدون أن خطاي في سماؤكم واضحة….و تتبعي لشروقكم و مغيبكم ظاهرة….و أملي أن تمل نفسي منكم…و ذلك لأني بدأت أخاف أن تكون نفسي بكم متعلقة…و نفسي تعلم أن لكل بداية نهاية….فهي تخاف من تلك النهاية …فهي أقسى نهاية…هي اللحظة التي تختفي عني شمسكم …أو تعجز خطواتي عن ملاحقتكم….و عندها سوف أحس أنني أخطأت بأن ظللت أزرع الأمل في الأرض البوار…وأنشد الأمل حيث لا أمل ….
قصة النهاية
اليوم تكتمل حلقات هذا الموضوع….وتستعد وريقاته للغروب…بعد أن استمرت معكم تسع شهور متواصلة…تخللها انقطاع ثم معاودة….
إخوتي…
إن لحظات الوداع هي من أصعب اللحظات على المرء…كيف لا…وهي تؤذن برحيل…و تعلن بانقضاء عهد جميل….و أزوف ليالٍ يفتقد فيها الخليل…كم قضيت بصحبتكم أياماً جميلة…و كم سعدت بوقفاتكم العظيمة…
بينكم يحس المرء بشموخ و عزة…بينكم يحس المرء بأنه في ارضٌ تقل العمالقة…أخوة… ألفة …صداقة ….محبة …
فكيف تكون حياتي من بعدكم ؟ بعدما عمرتم أيامي بالسرور…و ملأتم حياتي بالسعادة…و كيف يصير حالي ؟…عندما أبحث عنكم في كل حين و لا أجدكم…فلا أجد إلا أرضاً على عروشها خاوية…و مناظر بالية….و بيوتاً هاوية…و أطلال من أهلها خالية… أبحث عن آثار أقدامكم….أماكن أنسي بكم….كل شيء يذكرني بأيامي معكم…فلا أجده…قد سُجلت تلك الأيام بصحيفة الأحزان…و أصبحت أيامي معكم في طي النسيان…. و صارت في عداد الذكريات…و في دفتر الأيام الخاليات… أنادي بأعلى صوتي …أين أنتم صحبي ؟…فيأتيني رجع الصدى….قد رحلوا ….فيال حزني…
أقف و أنظر هل حقاً رحلوا…أقف أنا و أشباح جسمي….أنتظر وحدي…لعل طيفكم يأتي…أو حبيباً للطريق يخطئ….أو وفياً يذكرني بقلبه فإن ذكره لوصلي يكفي….فأنتم حبي و إن أقفرت أرضي ….أو تساقطت أغصان عمري…أو تناثرت أوراق بهجتي…فهل حقاً رحلوا ؟!
من بعدكم سوف أعيش في عالم الذكريات…في أرض لا يواسيني فيها سوى أشكال كأشباح…أو شمسٌ ترسم لوحة الخوف على أرض الفراق…ترسل لي أشعتها من كبد السماء…فتقترب مني حتى تلامس كل جسمي… لتخفف عني بُعد صحبي…. و تريد أن تنزل الدفء في قلبي… أحس أنها تريد أن تواسيني….فتحرق جسمي بلهيب أشعتها التي تصهرني….
أيتها الشمس لقد شهدت أيام سعدي …و كنت مصدر دفئي …فلا تحرقيني من حيث أتيت لتساعديني….فيكفيني عذاب بالجوف يكويني…ياشمس إن كنت تريدين أن تقفي معي في كربتي…فانقلي كل دفء قلبي و كل حبي إلى كل من يسكن تحت أشعتك من صحبي…
ثم اتركيني أواجه قدري…فكل فراقٍ يجعلني أجثوا على ركبتي…و تلمس هامتي أرضي….اتركيني أسقط حتى ألتقي بتربة أهلي…اتركيني إلى وقت غير معلوم…اتركيني حتى يأتي يوم جديد و يكتب فيه لقاء حب جديد مع أناس يغرسون حبهم في قلبي…و ينقشون اسمهم في صفحات عمري….فعندها سوف أعود من جديد…و أبحر عبر النهر…و أمسك الناي و أنفخ بهدوء …و يغرد الطير …و تتفتح الزهر…و تتهادى حبيبات الندى من وريقات الشجر…و تتساقط حبيبات المطر….و تسامرني أشعة القمر… و تبنى في قلبي قوافي القصيد و تنظم أبيات الشعر…و أعيش قدري و حبي لكم مرة أخرى حتى يحين موعد فراق ….و لا مفر من القدر….فحالي و إياكم كحال الليل الذي ينتظر بزوغ القمر…..
الختام
في لحظاتي هذه دعوني أقول لكم …لقد حان موعد النهاية…و لقد كتب الله اللقاء وكتب الوداع…
فاليوم أحزم حقائبي لأرحل عن أرضكم….و سوف أغمض عيني حتى تحين ساعة الرحيل المر…رغم ذلك لن أنجوا من ذكراكم فسوف يكون لقائي بكم في عالم أحلامي…
دعوني أقول لكم إلى اللقاء…و أعود إلى أطفالي الذين يحزنهم أن تأخذوا شيئاً من عواطف أبيهم…ويحز في صدورهم أن يروا أنكم تأخذون بعض وقتهم…لذا أجد أنني أفرطت في أحزانهم…و لقد وجدتهم لبسوا ثوب الصبر…و أرادوا أن يتجملوا ببياض القلب مع أصحاب أبيهم…ولكن لكل شي له حد…فأودعكم لأذهب إليهم
و كما بدأت هذه الرحلة بكلمات أختمها بنفس الكلمات….فأقول لكم : الله لا يحرمني منكم
محبكم / نسيم نجد
إلى اللقاء
ملاحظة /
صورة عاصفة السودان من تصوير أخي الأكبر
و صورة هولندا من تصوير أخي الأصغر
قصة أحلام الناي ترجمة محمد فؤاد عطالله مع بعض التعديلات من الكاتب
أخي الكريم / نسيم نجد , أسعد الله أيامك و لياليك ..
ما اجمل هذا البوح و ما أعطر هذه الكلمات لقد لامست شغاف القلوب ودخلتها بلا إستئذان , فأنت تمتلك روحاً شفافة ونفس جميلة ..
إلى الأمام , و لنرى المزيد والمزيد في قادم الأيام إن شاء الله ,,,
أخوك / وائل
أخشى أن أقول رائع فأكون مجحفاً !
آآآآه يا نسم نجد !
أنت تعزف على مشاعرنا ..
زادك الله من نعمائه =)