باريسيات
في باريس …خرجت مبكراً جداً , و قررت أن أزور الغابة القريبة من أطراف باريس , و لا أعلم هل هي غابة فانسن أو بلونيا . خرجت و بيدي خارطة تبين الطريق الموصل إليها , فدخلت أولها و نعمت بأجوائها الرائعة , فالا تسمع إلا حفيف الأشجار , أو زقزقة الطيور , أو خرير المياه المنساب من الجداول , أو أنفاس رياضي ثائر .وضعت باريس في الجهة اليمنى , و الغابة في الجهة البسسرى , ثم تعمقت بوسطها , و بعد أن وصلت إلى قلب الغابة أحسست و كأني بوسط لعبة المتاهات , تقاطعات غريبة , و أغصان الأشجار متماسكة . و الأرض بالمياه مبتلة . فدب الخوف في صدري , و لكن يصبرني و يربط على قلبي , عندما تنعشني القطرات , و تتسلل إلى رئتي نسمات الهواء الصافية النقية , فصدقت التسمية عن هذه الغابة ” مصنع الأكسجين لباريس “…
في باريس …شققت طريقي في وسط تلك الغابة , و كانت الأرض تخفي لي تحت أوراق الأشجار المتساقطة الكثير من بقع المياه الراكدة . و لم أختر الملابس و الأحذية المناسبة لخوض تلك التجربة , فتبللت الثياب و اكتشفت تهريباً خطيراً في جلدة أحذيتي حتى تبللت جواربي . كنت أنظر لمن حولي فلا أجد مد النظر إلا أشجار متماسكة و أرضية مكتسية بالأوراق اليابسة , و سماء مظلمة , و من تحتها سحب كثيفة , و يخيل إلي أن هناك شيء ما سوف يخرج لي من بين تلك الأشجار . أو هكذا أتوهم , أو رسمها عقلي , أو نسجتها أفكار الخوف التي أملاها علي عقلي .
في باريس …تعتبر تلك الغابة ملاذاً للمجرمين و اللصوص في العصور الغابرة , أو قطاع الطرق أو الهاربين من الأحكام في العصور الفائتة , فكان فكري يقول كيف سأنجوا منهم ؟ و هل سوف يصدقون أنني قدمت من أطراف نجد لأخوض مثل هذه المغامرة , مغامر سماع أصوات الطيور المهاجرة , أو هل تعتقدوا أنهم سوف يصدقون أنني استيقظت من الفجر في هذا الشتاء القارس من أجل عيون أخوة لي ينتظرون من تقريراً مفصلاً عن غابات باريس القريبة . و لكن قطع علي حبل أفكاري أن بان نور من بعيد , فكأنه يلوح لي بالنجاة , فآثرت ترك المغامرة لمن هم أهلُ لذلك و آثرت السلامة .
في باريس …” لا تحمل هم الأناقة بزيادة ” , فأهل باريس تبدوا منهم الأناقة بدون تكلف , و يظهرون بأشكالهم الطبيعية , بل إن اهتمامهم بملبسهم يقل عنا , و لكن يجملهم ما وهبهم الله من جمال المظهر , فأصبح أي لبس يظهرهم بمظهرٍ رائع . أما نحن فنشتري أغلى الملبوسات , و نختارها بعد تدقيق و تمحيص , ثم نقارن بينها و ننسقها , و نتفاجأ أنه لا تعجبنا بعد أن نلبسها , و نلوم كل من حلونا ’ و لا نعلم أن العيب ليس فيها , بل إننا نحن لم نخلق لها . فرأيي ..أن تكون بسيطاً …و لكن لا يفهم من كلامي أنني أدعو أن يكون المرء مهملاً لمنظره , رثاً في ملبسه , بل الوسطية هي النجاة , و الاعتدال هو المطلب , و الاختيار المتناسب و بغض النظر عن السعر هو من سوف يزيد من جمال منظرك .
في باريس …هناك حافلات سياحية تأخذك بجولة على أهم معالم باريس , و هناك نوعين من التذاكر .تذكرة تنتهي بيوم واحد , و تذكرة تستخدمها لمدة يومين , و لك أن تقف في أي معلم ثم تستخدم أي حافلة من حافلات الشركة السياحية التي تمر بتلك المعالم .
في باريس …من سوء حظك أن تأخذ رحلة سياحية عبر الحافلات في يوم ممطر , فجمال الرحلات السياحية أن تصعد إلى الدور المكشوف من الحافلة ,و تستمتع بهواء باريس , و تعيش لحظات تاريخية بين معالم باريس العالمية .و تحس أنك سائح عندما تمر بجمع سياحي عبر حافلة أخرى فتسمع كلمات الترحيب و تبادل التحايا من بعيد..فالنغمات السلامية مستمرة ..هاي هاي ..و شلونكم عساكم طيبين .
في باريس …ركبت الحافلة السياحة في وقت مبكر – كل برنامجي بوقت مبكر – , و اخترت السقف المفتوح كخيار مفضل للمشاهدة و التصوير . و لكن الأمطار كانت تغازلني كل حين , فأهرب منها ثم أعود على عجل عندما تتوقف عن التساقط .
في باريس …مررنا بساحات كثيرة , و بميادين عظيمة و بأماكن مختلفة و قصور شاهقة . حيث بدأت الرحلة من قوس النصر في ساحة شارديجول , فقطعنا جادة الشانزليزية , بإتجاه ساحة الكنكورد و حدائق التويلري الموجودة بالقرب منها . و تركنا خلف ظهورنا جادة لاجرانت أرمي و التي تمتد إلى الأديفانص خلفنا . هذه بداية الرحلة و هنا تكون أيضاً النهاية .
في باريس …كنت أخرج مع الطيور في البكور و أعود معها وقت الغروب , برغم أننا في فصل الشتاء و متأكد أن أغلب الطيور قد غادرة باريس مهاجرة لتبحث عن الدفء , و لكن مجازاً أقول ذلك . أخرج أول الناس من غرفتي و أعود أيضا أول الناس إليها . ففي فترة المساء و عندما تغلق المحلات أبوابها , عندها أرى أن باريس قد أوصدت أبوابها في وجهي , فيحسن بي أن أذهب إلى مطعمي , و أطلب بيتزا كبيرة جداً تتناسب مع عدد الكيلوات التي قطعتها مشياً على أقدامي .
في باريس …الناس هنا قد جاءوا ليبتسمون , فهنا كل الناس تلوح على وجوههم السعادة , و هذا ليس بمستغرب , فهذا الوقت هو وقت أعيادهم , و هم يحتفلون في وسط مدينتهم المفضلة . لذا لا تقبل باريس بأي صاحب تكشيرة .
في باريس …فندقي نظيف جداً و أيضاً منظم , فكأنه لم يسكن , بل الأثر الوحيد الذي يظهر من بعدي و من قبلي أنه مسكون أن اللحاف قد أبعد شيئاً قليلاً أثناء نومي . و ذلك لأنني أخرج مباشرة بعد أن أستيقظ , و لا أعود إلا لأصلي ، و أغير ملابسي , و أنتعش بدش يعيد لي طاقتي لأبدأ من جديد باكتشاف باريس التي طالما سمعت عنها .
في باريس …مررنا باليزأنفاليد حيث يحتوي على مجمع من القصور و المتاحف و دار عجزة و قبة مذهبة هي الأجمل من القبب المنتشرة بالعاصمة الفرنسية , و بالإضافة إلى ذلك هناك المدفعية و التي قد صفت على مدخله , يستخدم بعضها في المناسبات الهامة .
في باريس …أهم محتويات اليزأنفاليد قبر نابليون و عائلته . و المجمع يفتح في أوقات محددة من السنة . – نرجو عدم السؤال عن لم أزره و لم يتسنى لي النظر إلى قبر نابليون الذي أشغل العالم –
في باريس … المعهد الإسلامي (وفيه أكبر مساجد باريس) ، ومعهد العالم العربي.. وفيه مخطوطات قيمة , و تقام فيه ملتقيات عربية و ثقافية , و احتفالات عامة . و بجوارهما حديقة النباتات الرائعة و معروضات معدنية و حديقة حيوانات . و هذه المعرض أيضاً لم يتسنى لي أن أزورها .
في باريس …بحثت عن المحلات المشهورة للماركات العالمية للملابس الرجالية , و ذلك وفاءً لتوصية من أحد الأصدقاء , الذي أوصاني أن أزور محل الماركات الفلاني . حيث قال أنه يحتوي أجمل و أرقى الملبوسات العالمية من قمصان و بناطيل . و لقد سألت الصديق العزيز فقلت له : و مالذي يميز الماركات عن غيرها من المحلات العادية , و خاصة أننا نحن عرب و قلما نلبس تلك الملبوسات إلا بالسنة مرة أو مرتين , و لو كان البحث عن الماركات من الجزم لقلت أن الطبية هي حاجة ملحة و قوية , و لكن قمصان و بناطيل ماركات هذا شيء فيه نظر . فقال أن فيها أشياء كثيرة رائعة سوف يأتي وقت مناسب لأحدثك عنها , و من حسن حظي أنه لم يأتي هذا اليوم…و لم افرح يومُ بجهلي إلا تلك الساعة . وسوف يأتي يوم بإذن الله أحدثكم عن مكانتها و مميزاتها عندما يحدثني صديقي عنها . أعلم أن فضول البعض قد يقول …هل اشتريت له ما طلبه , فأقول : لقد سألت عن الماركات التي طلبها , فكانت الأسعار متقاربة . فنجوت من مضيعة الأوقات لتتبع الموضات .
في باريس … لم أكن يوماً من الأيام مهتماً بالتاريخ الأوربي الحديث أو القديم , لذا لم يكن يلفت انتباهي جورج الخامس أو جورج السادس , أو حتى جورج الثلاثون , و لم أعقد حاجبي أبداً لا متهولاً أو مستغرباً عندما أرى تمثال فليب و قد حسر عن صدره و أمتشق سيفه و هو يقف بجانب فرسه , و لم تكن تتحرك نفسي مثقال ذرة عندما أرى نابليون و قد لبس لابة الحرب , لم أكن مهتماً بذلك لذا كانت التماثيل التي تمر علي أو أمر عليها لا تستوقفني , و كنت أتململ من توقف الحافلة السياحية حولها , أو شرح المرشد السياحي عنها , لذا لا تنتظروا مني أن أعرض عليكم كيف تحولت فرنسا تاريخياً , أو كيف نشأ القصر الفلاني , و كيف أنقلب عليه جورج الثاني .
في باريس …تذكرت رواية الأيام و طه حسين , و كيف انتقل من حياة القرية ثم القاهرة ثم فجأة يجد نفسه في باريس الفرنسية , و كيف درس في جامعة السوربون و تعرف على فتاة عشقها من صوتها و أعجب برقتها و هي التي كانت تقضي معظم وقتها بطباعة بحوثه التي يقدمها , و في أحد إجازاته التي قضاها في بيت أهل تلك الفتاة في الريف الفرنسي , تقدم لخطبتها , فلم توافق مباشرة , و لكن بعد فترة أبدت رغبتها بالاقتران به . هناك تذكرت ..رحلة البعثة المصرية الأولى بقيادة رفعة الطهطاوي , و كيف كانت التحولات و كيف انقلبت الموازين على المبتعثين . هناك عشت لحظات البؤساء , فلا زالت بعض لحظات تلك الرواية أعيشها لحظة بلحظة , و دقائق محاكمة التاجر الكريم من قبل التاجر اليهودي اللئيم في قصة أحدب روتردام تظهر لي بفصولها و ذلك عبر روايات فيكتور هيجو . و القائمة تطول و حديث الأدباء يعود للذاكرة عندما تزور أرضهم التي تغنوا فيها أو رسموا لوحتهم فيها .
في باريس … اعتمدت على برج إيفل , و اتكأت على قوس النصر , و أستظليت بأشجار جادة الشانز , و ركبت قطارات الأنفاق , و تمتعت برؤية القصور و الدور , و كل ذلك و كأني بوسط مدينة تاريخية , أو بحديقة مصغرة للمعالم العالمية .
في باريس …رأيت الطوابير الهائلة و التي تنتظر عند أبواب صالات السينما المشهورة , فالناس يتجمعون بساعة محددة ليقطفوا تذاكر العرض القادم و ليكونوا في المقدمة , فيختاروا الأماكن المناسبة . لم أكن عاشقاً لسينما , و لم أكن مهتماً بهذا المجال , لذا أفرح عندما أراهم طوابير طويلة , فأعتقد أن ذلك سوف يخفف علي الطوابير الأخرى من المطاعم و المعالم الشعيرة من باريس خاصة في مثل هذه الأيام المزدحمة .
في باريس …البشرة الفرنسية مميزة , فليست هي كبشرة الألمان بيضاء لدرجة عالية , و ليست كالأيرلنديين مشربة بحمرة , و ليست كالإيطاليين برونزية , بل هي خليط من هؤلاء جميعاً , بياض برونزي بحمره , فهم لهم ملامح خاصة , وجه دائري و تجد مسترسلاً عليه شعر قد صف بعناية .
في باريس … وجوه سمراء و بيضاء , شباب و كهول , أغنياء لدرجة الترف , و فقراء لدرجة تحت الصفر, صخب و هدوء, فخامة و حاجة , قصور تاريخية و أثرية و بيوت قديمة و مهترءة , أحياء راقية و أحياء وضيعة . هناك طرفي الحياة الأسود و الأبيض , السالب و الموجب . الحياة و الموت , القديم و الحديث , هناك المتناقضات مجتمعة , كالفرق بين الليل و النهار , كالفرق بين الغروب و الشروق . كالفرق بين الشرق و الغرب . لا تستغرب أن أكون قد كررت مثل هذا الحديث مرة أخرى , فقصدي أن المتناقضات كثيرة , فأردت أن أأكدها مرة أخرى , و لعلي في كل مرة أعيدها وذلك لظني أنني لم أصف متناقضاتها بالشكل المطلوب .
في باريس …تتسلل النسمات من بين ثيابي لتداعب جسدي , و تنزل قطرات الندى على خدي لتنعش وجهي , و تنزل مناظر الطبيعة على عيني لأمتع بصري بروائع المناظر من حولي . و أسرح بفكري فأخترق حصون , و أفك شفرات , و أحل عقد , و أحلل نفسيات , و كل ذلك من أجل أن أفهم طبيعة هذا الشعب الذي أعيش بينهم , و أنظر ماهو أثر معيشتهم وسط تلك التحفة الفنية على تصرفاتهم . و أجمع أثر هذه النعمة من الطبيعة و الهواء النقي على حركاتهم و سكناتهم و أعمالهم . كل ذلك حاولت أن أفهمه خلال فترتي القصيرة التي أقمتها هناك , و أعتقد أنني لم أحيط بكل شيء أريده , و أتمنى أن أكون أستطعت أن أحيطكم ببعض الذي أحطت به , ابتسموا إن كنتم لم تفهموا ما أريد … فحتى أنا أحس أنني لم افهم نفسي بالشكل الذي أريده…لذا سوف ابتسم ..
في باريس …مررنا بميدان البانثيون و قد نزلت وسطه كنيسة البانثيون , و هي بالقرب من الحي اللاتيني و قد خصصت كمقبرة للعظماء من الأولين و الآخرين , و بالقرب منها جامعة السوربون و بمواجهة حديقة لكسمبورغ .
في باريس …أو كما ينطقها أهلها ” باغي ” , أو كما ينطقها بعض العرب ” بباريز ” , أو أنطقها بأي شكل يعجبك , و لكن سوف تعجب بأشياء كثيرة , و سوف تجد ماوجدت ,فقد وجدت أشياء عظيمة و مهولة , فعندما أمر من جانب برج إيفل فإنني أتعجب من صنع المصمم إيفل و أقول : ياله من رجل خارق . و عندما أمر من جانب قوس النصر أتأمل التصميم و عمل الفنانين , و أتعجب من جمال رسمهم , و عظيم نحتهم , و كمال عملهم . و عندما أمر بالقبب المزخرفة , و الأقواس المذهبة التي تعتلي القصور و الكنائس فإنني أتأمل ماتحتويه من عمل رائع يدل على إتقان غير مسبق فأقول في نفسي : لقد قاموا بعمل لن يقدر عليه أحد غيرهم . هذا يحدث في باريس …أما مايحدث لي عندما كنت في زيلامسي النمساوية أو إنترلاكن السويسرية , فقد كنت أمر بالطبيعة الفاتنة , فأجد أن الشلالات تنساب من أعلى الجبال , ثم تتهادى على أرض خضراء , فأقول : سبحان الله , و عندما أرى الطيور مع البكور تخرج لتلتقط رزقها و تبحث عن قوتها , و هي تنشد التسابيح بشكل عجيب ..فأقول : سبحان الخالق الرازق , و عندما أجد جبال الألب و قد امتزجت بألوان الطبيعة , فقمم بيضاء ناصعة, ثم غابات كثيفة متماسكة , و من بعدها هضاب ممتدة خضراء رائعة , فأجد نفسي و بدون شعور أقول : اللهم إني أسألك الجنة , هذا الفرق الذي يجعلني أحب الطبيعة التي خلقها الله سبحانه و تعالى فتراءت لي بأجمل حلة , و تجعل الإنسان يعود إلى خالقة كل برهة , و يعود إلى فطرته التي خلقه الله عليها , هذه الطبيعة أفضلها و أسبح في رحابها , لذا لن أستطيع أن أقارن أو أحب باريس التي هي صنع البشر , كما أحب الأرياف و الطبيعة و ما تحتويها و التي هي صنع الله المباشر .
باريس …تحدثت عنها كثيراً في موضوعي هذا فلا يعتقد البعض منكم أنني رحال , أو عالم بكل الأحوال , أو زائر البلدان و الأمصار , أو الخبير الذي لا يشق له غبار , إنما هي معلومات شحيحة , مزجتها بكلمات ضعيفة , و خلطتها بصور طفيفة , فكانت الخلطة التي ترون أمامكم .
باريس …هي كالبلدان التي زرت , أنسى كل الأسعار التي بها أكلت , أو سكنت , أو شربت , و أنسى كل أسعار التذاكر للطيران أو القطارات , أو المتاحف , ولا أحرص على تسجيلها , لأنني عندما أمضي بعض الوقت بالتسجيل ,فكأنني أقوم ببحث سوف أقدمه لمنظمة الأمم المتحدة , بل أن لدي قاعدة أن الذي تنساه لا يستحق أن تذكره , فيكفيني المتبقي من المشاهد الجميلة التي أختزنها في صدري .
في باريس …أختر ما يعجبك , و تفحص رغباتك و هواياتك و محل عشقك و من معك في رحلتك , فلست ملزماً أن تقضي الساعات الطوال في الطوابير من أجل أن تقف على لوحة الملونيزا ثم تقف بضع ثواني و تنسحب , و لست ملزماً أن تذهب إلى كل المعالم و هي لا تروق لك , أختر مايناسبك , فلست ملزماً أن تذهب إلى مدينة ديزنيلاند ثم تعظ أصابع الندم على وقت قضيته هناك , و لست ملزماً أن تجلس في جادة الشانز ثم تتململ من أشياء لا تعجبك . و لست ملزماً أن تذهب إلى كل سوق ثم تحس بالضجر , أختر ما يجلب لك السعادة , فإن كانت السعادة أن تستلقي في الفندق من الصبح إلى المغرب فافعل ذلك و بلا حرج ..
باريس …كررتها كثيراً في حديثي في هذا الموضوع ” باريسيات ” فلا يعتقد البعض أنني مليونير أو ملياردير , أو تاجر كلمة أنطق الحروف مفخمة , بل أنا إنسان بسيط , سمع الناس يحكون عن جمالٌ فتون , و رأى الناس يسيرون إلى بلد الفنون , فآثر أن ينقل لكم صورة من هناك . فلست من أصحاب مقاهي الشانز , أو نزلاء فندق جورج الخامس , أو مرتادي مقاهي الفوكيت , أو من توقفت به طائرته الخاصة بمطار شارديقول , أو أتى ليأخذ نزهة بعد أعمال تجارته لمدة سنة , أو جاء ليستمتع ببرهة من الوقت بعد أن قضى الكثير من مشاغله في مجلس إدارته . إنما أنا إنسان بسيط , أنتظر آخر الشهر المهية , و فرحت بزيادة الخمسة بالمية , و منذ يومين كان عشائي طعمية . أنا إنسان بسيط و لكن أستغليت ظروف الدراسة أو الدورات العملية لأطلع على تلك البلاد . فبحثت عن ارخص الفنادق , و أكثر التنقلات توفيراً للدرهم و الدينار . و قارنت بين سعر التفاح في بيتي و سعرها في جادة الشانز , و عملت حسبة بسيطة فوجدت أنني لا آكلها في بيتي فكيف أنفق عليها يوروات عديدة في تلك البلاد البعيدة . هناك أعطي نفسي حقها و لكن بمايتناسب مع ميزانيتي التي خصصتها لها , فلا إسراف و لا تبذير . لا مفاخرة و لا تقتير .
في باريس …تغرب الشمس في فصل الشتاء بوقت مبكر , فأمضيت أول الليل في طرقات و متاجر باريس , فلما رأيت الناس يكثرون في ليل باريس عدت إلى فندقي . ألقيت تحية المساء على شاب تونسي وسيم يقف على منصة الاستقبال , فرد و بابتسامة مرسومة و بدقة على وجهه و هو يصرفها متجددة لكل زبائنه , اتجهت إلى المصعد , فتحت غرفتي , أمضيت بعض الوقت , اتجهت إلى مفتاح الأنوار , فأطفأت الأنوار . فأطفأت آخر شمعة عن مدينة النور , و ( تصبحون – تمسون ) على خير .
عذراً تبقى فقرة واحدة هل من الممكن أن أكملها – أعانكم الله على فقراتي -….فأقول : في باريس …أستلقيت على جنبي الأيمن في سريري , فهو كما تعلمون صغير جداً و مناسب جداً لأن تطبق السنة للنوم على الجنب اليمن . ثم سحبت علي لحافي , فبدأت أحلم بأحلامكم . و ما عساي أن أقدمه لكم . فأقول في نفسي سوف آخذ كل ما أذكره من جميل الذكريات و أسكبها في قلوبكم , سوف أجعلكم تمشون معي في طرقات باريس فأحس بأنفاسكم , و أسير بين سيقان الغابات , و أغصانها , و مروجه فأخاف أن يخدشكم بعض أطرافها . سوف أركب معكم قطارات الأنفاق و أرفع صوتي من أجل أن أسمعكم لحني , و سوف أرافقكم بحروفي إلى حدائق الزهور , و أقطف لكم بعض زهورها لتنشر العطر في صدوركم , و سوف تجدونني بزاوية من زوايا مقاهي باريس أتأمل الكون من حولي فأصفه لكم بشوق , و رغبة , حتى تتصوروه بالشكل الذي يجعلكم تتلمسوه بين أيديكم , و سوف أحاول أن أنزل عند عشقكم حتى أحبه أكثر منكم , و أصل إلى رغباتكم حتى أكتبها لكم كما تستهويه أنفسكم , و أبحث عن مكان هواياتكم و أروي الحكايات المنسوجة عنها لتعجبكم , سوف أجعلكم تبتسمون , ثم أغير الترنيمة فتضحكون , ثم أختار إيقاعات أخرى فتقهقهون , ثم أمر بكم على حياة البؤس فتحزنون , ثم أغير عزفي على أوتار جديدة من أوتار التاريخ أو المعالم فتنبهرون . كل ذلك من أجل أن أنوع لكم في قوالب الحياة الباريسية , كل ذلك من أجل أن أجعلكم تشاهدون باريس بحرفي و لكن بمايوافق عشقكم , و بما تحبه عيونكم . لقد كانت هذه أحلامي على سريري في باريس , فلقد عزفت بكل ما أوتيت من قدرة , فهل وافق عزفي ذائقتكم , أشك في قدرتي على ذلك …..و لكن بقي شيٌ لا أشك فيه ” حبكم ”
في باريس …انتهت الحلقات و بقي نسيم نجد , حزيناً على فراقكم
نسيم نجد
naseemnajd.com
عزفك رائـــع و يعجبني كثيراً
كل الشكر لك اخوي و ع فقراتك الحلوه
و استانست وايد بهالرحله الروعه
تسلم ع المجهود الطيب
و نترقب كل يديد من جداك
أختي الفاضلة / إيمـــا
شكر الله مرورك
و بارك الله في حضورك
و حياكم الله في صفحتنا..
وجزاكم الله خياراً على كلماتكم
مدينة النور عليها مسحة من كآبة .
ربما يكون سببها الغيوم الثقيلة
التي تحط فوق سمائها أغلب الأوقات ..
آمل أن نرى نور الإسلام يشع فيها عما قريب ..
في الفقرة الأخيرة من سلسلة باريسيات وفي غيرها كذلك تواصل بارع مع قرائك ,
ولغة تحترم وجودهم على صفحاتك , وتخاطب وجدانهم
بور ك اليراع والقلم أيها الكريم ..
أختي الفاضلة / رحيل ~
باريس استطيع أن أسميها المذهلة , فقد أذهلت معجبيها , و إنذهل منها الذين تصوروها فوق حجمها .
بحق لا أستطيع أن أحكم عليها , فهي أجمل الجميلات في نظر البعض , و هي أقل البلاد جمالاً في نظرالبعض الآخر .
من يرى باريس فسوف ينبهر و بلا شك , و ذلك أن العالم بين يديه , و المعالم تتحدث بلغة التاريخ , و تثبت نفسها بلغة العصر , لذا لا يُنكر تاريخها و لا يغفل عن حاضرها …
و مشكلة باريس الوحيدة أنها تناسب أناس معينين جاؤا إلى هناك لا من أجل شيء بل من أجل باريس بعينها..فتروق لهم , ويطربون لسحرها..
أما مسحة الكآبة فقد تكون السحب لها أثر في ذلك في فصل الشتاء , خاصة أن السحب هناك تكاد أن تلامس الأرض ,و من الممكن أن تكون باريس في وقت الصيف أكثر إشراقاً , وقد تكون بنفوس البعض مشرقة على الدوام , عن نفسي أجد أن الطبيعة هي مقياس الجمال لذا أجدها في النمساو سويسرا…
بارك الله فيكم و جزاكم الله خيراً على جميل كلماتكم .
رحلات جميلة اخي الكريم ..
حقيقة استمتعت بأسلوبك الرائع ..
ولو أنني تمنيت أن يكون سردك بالفصحى ..
مع أن اللهجة العامية تضفي على كتابتك نكهة حلوه ..
إلا أن الفصحى تبقي هي الفصحى
هي الفرس التي يمتطيها فرسان الأدباء ..
تقبل مروري ..
أخوك قارئ نهم
أخي الكريم / قارئ نهم
حياك الله في صفحتي
و أسعدني أن وجدت مايسرك
كما اسعدني أن رأيت حميتك على لغتنا..
أنا أوافقك الرأي …كذلك أجد أنني لا أبتعد كثيراً عن حماها في كتاباتي..
بارك الله فيك و نفع بك