سعودية وسط الأدغال الأفريقية ( 8 )

طريق الحياة

 

 

 

في هذا الصباح كل شيء مختلف , و النفس إن ضاقت تلونت الدنيا بألوان قاتمة , الفرحة التي تحملها أختي طوال الأيام الماضية تحس اليوم أن هناك ما ينغصها , بل هناك ما يكدر عليها صفوة صبحها , إنه الرحيل … فاليوم سيرحل زوجها و أخيها إلى مدينة أخرى , و يتركونها في نيروبي هي و أبنائها لوحدهم , إنها غربة وسط غربة , ظلمة في كنف ظلمة , كيف سيكون يومهم إن غاب عنهم صوت الحبيب , ولكن يعزيهم إيمان بالله صادق …فإنهم و إن تركوهم فسوف تحرسهم عين الرحمن التي لا تنام , و يحفظهم اسمه العظيم ….

صبحهم اليوم مختلف , سُلبت من النفس أشيئا كثيرة و كلها أشياء جميلة , الهمة ليست الهمة , و النشاط ليس هو النشاط المعهود , في القلب الهموم و الضيق يصارعان السعادة و الابتسامة  , فتارة يغلب الكدر منابع الصفاء في النفس , وتارة أخرى تعلوا السعادة ويبرق نورها , و ذلك عندما يُتذكر أجر الاحتساب عند المرور بمثل هذه المواقف الصعاب .

 الطريق إلى مركز المهتديات هو نفسه يتكرر كل الصباح و لكن اليوم له شكل آخر , اليوم سوف يقوم زوج أختي و أخي بتوصيل أختي إلى المركز , ثم ينطلقون إلى رحلتهم إلى عالم مجهول . ركبت أختي بتثاقل عجيب , و ركب أطفالها من بعدها , نوافذ السيارة تنفث الهواء إلى داخل السيارة و كل شيء بداخل السيارة  يكاد أن يتطايربفعل الهواء , وحده القلب يكاد يقف , توقفه مشاعر الحزن العميقة .

في وسط جو الوداع المر , صوت أخي و زوج أختي يحاولان أن يرسمان شكلاً آخر من روح المرح و البسمة , لكن أختي تطغى على نبرتها الحزن العميق , و تظهر من خلال صوتها غصة , و بقلبها لوعة , و بأنفاسها زفرة , تحمل هماً و حزناً , وتبحث لنفسها عمن يواسيها فلا تجد إلا نفسها , الأطفال يتجاوبون مع الجو المرسوم ببراءة و لا يعلمون مالذي يدور في الخفاء .

وصلوا المركز , نزلت أختي , نظر إليها زوجها و أخي , فقالا : نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه , لملمت أختي حروفها , أرادت أن تنطق بكلماتها , و لم تستطع أن تنطق إلا بكلمة واحدة , فقالت بصوت خافت : والله يحفظك , هي الكلمة الوحيدة التي زاحمت الغصة بالحلق , فخرجت الكلمة بشق الأنفس , كلمة نطقها قلب زوجة و قلب أخت و قلب أم , فكانت هذه الكلمة هي بداية لسيل من الدموع , تبلل حجابها , قال زوج أختي : قاطعاً لحظات الوداع , لا تقلقي سوف نعود اليوم بإذن الله تعالى إن استطعنا ذلك , عليك بالصغيرات , أهتمي بنفسك , ويشاركه أخي في الحوار لكي يزيح هذا الستار الأسود من الحياة , آه منكم يا نساء تنسون الإخوان عند وداع الأزواج , قالت : حفظكم الله جميعاً بحفظه , تحركت السيارة , و وقفت أختي و أطفالها ينظرون إليها , حتى غابت عن الأبصار , و تعلق القلب بهم حتى تاهت نبضاته المتسارعة وسط زحام , نظرت إلى أطفالها من حولها و حانت منها شهقة , فقالت : الكبرى منهن , ما بكي يا أمي , قالت : لا شي يا أبنتي , فقطع عليهما افتتاح أبواب المركز حديثهما , دخلت الدار و وبدأت حياتها اليومية عبر دروسها التي هي مسلاتها في حزنا , أما أين ذهب أخي و زوج أختي ؟ فهذا أخي يروي القصة كاملة فيقول , أراد زوج أختي أن يصل إلى منطقة بعيدة من المناطق المحتاجة , فنظر كيف يصل إليها ؟  و كيف يلامس جراحها ؟ و كيف يداوي مصابها ؟
  

 

فأعيته الحيلة لبعدها عن نيروبي , و كثرة المخاطر التي تحف بها , و لكن من تمسك بحبل من الله متين تنفرج له الأمور ولو بعد حين , وحين يشتد الضيق وتشتد الأمور تنفرج الغمة و تكون الشدائد إلى زوال , فلقد انفرجت بعد أن ظن أن لا مخرج , فذهب إلى أحد شركات الطيران الخاصة , و استأجر منهم طائرة خاصة تقطع به تلك المنطقة , بأدغالها و جبالها و أحراشها , حتى يصل إلى قرية غائرة في وسط الجبال الشاهقة , فوافقت الشركة على الطلب و بمبلغ 500 دولار لمسافة 300 كيلوا قطعوها في خمس ساعات , يقول أخي ركبت أنا و الطيار و زوج أختي , في طائرة صغيرة ذات مراوح نفاثة , ركبنا و أقلعت الطائرة من المدرج , فصرنا بين السماء و الأرض معلقين ..
  

 

 

  

بل إننا كنا أقرب للموت من الحياة في أحيان كثيرة , مطبات هوائية مرعبة , تحليق على مستوى منخفض , في تلك الرحلة كنا أنا و زوج أختي و الكابتن ومرافق لم يغفل عنا إنه شبح الموت , نجلس في بعض الأحيان على كراسيها الغير مريحة فنمل , و نقف فنتعب , و نتجول فتتقاذفنا الاهتزازات , هي ساعات طوال مرت علينا كأننا في سكرات الموت , معيننا فيها بعد الله هو الذكر و أن الهدف هو سبيل الخير , و ما إن انقضت تلك الساعات و حانت ساعة الهبوط , حتى بدأ الطيار ينظر إلى الأرض فكأنما ظل الطريق أو يبحث له عن شيء بين ركام الأشجار …
 

 

  
لقد كان يبحث له بين الأشجار عن أرض مستوية , ليهبط فيها , فنظر إلى بعيد فوجد مبتغاة , فعزم هو و توكلنا نحن على الله , فهبط بسرعة مخيفة , أثارت كل الأتربة بالمنطقة , ارتطمت الطائرة بالأرض ارتطاما , اعتقدنا أن الطائرة قد تبعثرت أجزاؤها في ذلك المكان , و هاجت عاصفة الأتربة من أطراف الطائرة , لقد خيل إلينا أننا أصبنا في حادث أثناء الهبوط , لحظات ثم توقفت محركات الطائرة , ثم تبدد الغبار إلى أطراف الغابة , فتبسم كابتن الطائرة فقال: لكم أن تنزلوا بسلام , لم نصدق أننا وصلنا و أن أنفاسنا لازالت ترتد إلى أعماقنا , و أن قلوبنا تنبض بالحياة , و ما إن انقضى هم الهبوط , حتى فكرنا أن خلفنا مهمة ومن ثم نعود على نفس هذه الرحلة , و نفس المشوار , و بنفس الطائرة , و أن علينا أن ننهي مهمتنا في نفس اليوم , حتى نعود إلى نيروبي مع هذا القائد , كانت خطواتنا منظمة و محددة , كنا في عمل متصل و لم يمنعنا عناء الرحلة أن ننجز مهمتنا بأسرع وقت , و لقد كانت لحظات جميلة أن تصل إلى أخوتك في بقعة سحيقة , تشاركهم همومهم و تمد يد العون لهم , رغم أنه لحظات قصيرة , لكن لحظات مباركات , فكان العمل المنجز أكبر من المتوقع , كانت عينٌ على مهمتنا و إنجازها , و العين الأخرى على أبنائنا في نيروبي , قضينا الوقت كما رتب لها من قبل , و في الساعة المحددة , عاودنا الإقلاع من جديد , و عاد الهم إلينا و لكن بصورة أقل , فقد أعطتنا رحلة الذهاب جرعة نفسية لمواجهة الأزمات , لقد تمت رحلتهم و عادوا إلى نيروبي عندما حانت الشمس إلى المغيب , أنا في هذه اللحظة , أقف متعجباً من تلك النفوس التي لا يقف أمامها حائل , و لا يردها عن إيصال رسالتها أي عارض , و لكم تمنيت كثيراً أن تكون نفسي هناك , فاسأل الله أن يمن علي بركوب مركب الدعاة , كما ركبها هؤلاء الدعاة , أما الطرف الآخر ممن يجوبون أراضي أفريقيا , فهم خدام الصليب , الذين سبقوا خدام التوحيد بالتواجد في تلك الأرض , لكن هل تثمر أشجار من يخطو خطوات في محاربة الجبار ؟ , أم هل تخيب مساعي من يسنده العزيز الرحمن ؟  إنهم يقفون عاجزين أمام المد الإسلامي , فهذه الكنائس هناك تقف عاجزة عن الوصول إلى القلوب رغم أنها وصلت إلى البطون ..
 

 

  
فما أن تنتهي المجاعة حتى يعودون فرادات و وحدانا إلى طريق الإسلام , بل رغم أن الجهود ضعيفة بالمقارنة بإمكانيات التنصير , فإن ما يعمل بسنوات هناك تحت ظل الصليب , يُعمل بأيام تحت راية الدعاة من المخلصين من المسلمين من أبناء التوحيد , فلكم جابت حملة الصليب السنوات الطوال قرى متناثرة في غابات إفريقيا لإبلاغ رسالة الظلال , فتعود خاسرة , و بينما تمر سحائب الرحمن على تلك القرى في أيام و تدخل القرية بيوم وليلة تحت ظلال الإيمان , وتمتلك النصارى الدهشة , يتساءلون كيف يكون ذك و كيف تسحر العقول بهذا السرعة العجيبة ؟! فلا عجب , إنه سحر القلوب و نفحات الإيمان التي تباركها بركة الرحمن , و هذا العجز الذي تجده الكنيسة في دعوتها , لم يكن في أفريقيا فقط بل في كل مكان في العالم , قال قسيس ألماني في أحد مساجد بون , وذلك عندما كنت هناك نقلها لي أحد الدعاة في مدينة بون , لا أعلم مالذي تفعلونه بأبنائكم حتى يأتوا إلى المسجد في اليوم خمس مرات , و لقد زرت مساجدكم و لم أجد ما يرغبهم بالحضور أو يجذبهم للحفاظ عليها بهذا الشكل الذي يدعوا للدهشة , فنحن صلاتنا في الأسبوع مرة , و عملنا جميع المرغبات للشباب فلم نستطع أن نجعلهم يزوروا الكنائس , إنه أمر يحيرني , و رغم ذلك أهنئكم به , وهذا الحدث نفسه يتكرر في كل أرجاء العالم بل تجده بصورة واضحة في أفريقيا, فمليارات الدولارات تصرف على التبشير , أدوية و أطعمة و تعليم و تنصير , و بنفحة من نفحات هذا الدين تنطفئ شمعة التنصير , و تشرق شمس التوحيد , وهذا الذي يحير من كان هناك من المنصرين , الذين يعملون السنوات , و بمجرد مرور دعاة التوحيد تسقط لبنات بنائهم على رؤوسهم في لحظات , فكم بذلوا لينصروا قرية أو مكان بعيد في غابة , و تمر قوافل الخير فتبشر بالخير و تسلم القرية عن بكرة أبيها , و إن كانت تلك القرية كافرة فيدخلون في الإسلام , و ينظمون تحت لواء الإسلام , وقد حافظوا على أركان هذا الدين كمن أمضى عمره كله بين جنباته , ومن كانت أثرت عليه حملاتهم , تجدهم يعودون أكثر تمسكاً من قبل , إنه أمر يعجبون منه بل لا يصدقونه , و لم يكن يتحقق ذلك لولا رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه , بذلوا أنفسهم و أوقاتهم و أموالهم لخدمة هذا الدين , يقول زوج أختي , كنا في رحلة دعوية في أرض نائية في دولة افريقية , و أخذ منا المسير أيام , قطعنا فيها مهالك , و تعرضنا فيها للموت مرات , و صرنا في عداد المفقودين لولا أن حفظنا الله بحفظة , و لما بانت لنا القرية المقصودة كنت الشمس تقترب إلى المغيب , و قد بلغ منا التعب مبلغه , و نزل بنا الوهن حتى أعجزنا عن المسير , فنزلنا قريباً من القرية , فقال أحد الدعاة لعلكم تأخذونا قسطاً من الراحة , و أذهب أنا و استكشف القرية , فيقول : تبسم أحد الأخوة من قوله , فقال : و لِما تتبسم , قال : لقد تركنا أهلنا و أبنائنا و ديارنا , و أتينا إلى هنا من أجل أن نأخذ قسطاً من الراحة ؟! هل قطعنا كل هذه المسافات حتى نركن إلى الدعة ؟! لا و الله لن نتركك تستأثر بالأجر من بيننا , و إن كنا نحبك , و لكن في أمور الدعوة لا يمكن أن نقدمك على أنفسنا , بل نذهب سوياً نستطلع و نستكشف , بل نبدأ بالدعوة من الآن , فربما أنقذنا أحداً من القرية قبل أن يأتي يومه , فذهبوا جميعاً و وصلوا إلى القرية و بدأ برنامجهم هناك , فيا الله يالها من نفوس قد فسخت لباس الدنيا و أقبلت على الآخرة , و يالهم من فتية طلقوا المتاع و استمتعوا بالامتع , و يال نفوس يحملونها بين أضلعهم كيف تستحمل كل هذا التعب و النصب , فقد تعلم الصبر منهم دروساَ جديدة , و مل التعب من تتبعهم خلال طرقات الدعوة , كانت أيديهم تمتد إلى كل فقير , و وجوههم تتبسم في وجه كل حزين , و كلماتهم تمسح دموع كل مكلوم , هم كالمطر كله خير أوله خير و أوسطه خير و آخره خير , يمرون فيزرعون بذور التوحيد في مجاهل أفريقيا , فتنبت شجراً صالحاً جذوره تضرب في أعماق الأرض , و أوراقه يستظل بها من حر الفتن , و ثماره تغذي النفوس في المحن , فجزاهم الله ألف خير على جهودهم , و بارك الله في جهودهم , و لولا مخافة أن يصيبكم الملل لما توقفت عن ذكر المواقف , لكن هي كلمات كتبتها , لأعرض وجهاً نيراً , من وجوه أبناء هذا الدين , و ألقاكم في الحلقة القادمة وهي الحلقة الأخيرة , دمتم بخير
نسيم نجد
www.naseemnajd.com

روابط بقية الحلقات….

الحلقة الأولى

الحلقة الثانية

الحلقة الثالثة

الحلقة الرابعة

 الحلقة الخامسة

الحلقة السادسة

الحلقة السابعة

الحلقة الثامنة

الحلقة الأخيرة

عن سليمان الصقير

محب للسفر والترحال : مؤلفاتي : 1- 800 خطوة لرحلة سياحية ممتعة 2- 150 طريقة ليصل برك بأمك 3- أمي أنتِ جنتي 4- بنيتي لكِ حبي 5- مذكرات مدمن إنترنت

شاهد أيضاً

سعودية وسط الأدغال الأفريقية ( الأخيرة )

اليوم الأخير   هذا اليوم هو يوم فسحة و استجمام و نظرة على بعض جوانب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.