الصبح الأول
لم يكن ليلهم طويلاً , فقد فاقت قبل أن تشرق الشمس , و عيناها تتقلبان في كوخها الصغير , و كانت نافذة الغرفة هي المكان الذي يمكن أن تطل منه ببصرها بلا حدود , حيث بداية الأمل الوليد . وقفت تنظر كيف يشرق نور الصباح في نيروبي , و كيف يبزغ شعاعها من مشرقها , قبل هذه اللحظة يعم الكون سكون عجيب , و هدوء يخيم على الأفق , ماعدا بعض نفحات النسيم التي تتحين الفرصة لتدخل إلى الغرفة عبر نوافذها , و لتمنح الجميع بنسمات لطيفة و تخبرهم بقرب صبحها , يشق السكون صوت غراب من بعيد , ليبعثر بصوته أوراق هدوء الصباح , فكأنه فتح الباب لمزيد من لضجيج , و لكنه ضجيج جميل , فهو يعني بداية الحياة من جديد , وبداية نهار كانت ترقبه من بعيد , بداية لصفحة جديدة من صفحات الحياة , يوم يحمل بين طياته .. أمل .. خوف .. حب ..ترقب .. وجل .. أشياء ينتظرونها منذ زمن , و هو أيضاً يوم محمل بأشياء متناقضة تجعلهم يخافون الإقدام عليها أو البدء بخوض غمارها أو القدوم إليها و مباشرتها , لم يدم الحال طويلاً حتى رسمت الشمس شعاعها عبر النافذة على أجسام أطفالها , مع نور الصباح بانت بقع حمراء متفرقة على أجسامهم , هي لسعات البعوض التي شاركتهم ليلتهم الأولى , فبدأ هاجس الخوف يتسرب إلى قلب الأم , بل تعود بها الذاكرة إلى النتائج السيئة للسعات البعوض و خطرها .
نادت زوجها فطمئنها بأن الوضع لا يحتمل القلق , أو أن العارض ينذر بخوف , ولكن قلب أم ..و كيف لقلب الأم أن لا يقلق أو يخاف؟! . بل كيف لا تخاف و شبح مرض الملاريا يقف دائماً أمام زائري القارة السوداء ؟!.. و هو مرض يبدأ بأعراض بسيطة و لكن إن أهمل فنهايته إذا أراد الله فهي وخيمة و حزينة , ولعل اسم هذا المرض يعيد ذاكرتي إلى الوراء …
تبدأ القصة بأن شاب زار تلك البقاع , و هذا الشاب أعرفه وقد جالسته من قبل .فهو شاب في مقتبل العمر , رسم له في هذا الحياة طريقا للنجاح , طريقاً للتجارة و منافسة أرباب الأموال , مبتداه الطموح و منتهاه الوصول للأحلام , سار في طريقة و أعطاه الله أكثر مما يتوقع , بدأ حياته في عالم التجارة مبكراً , و وصل في بضع سنوات في سلم التجارة و التجار فصار ممن يشار إليهم بالبنان , كان واقعه الذي أعطاه الله أكثر من أحلامه , كانت أبواب الرزق قد فتحت عليه , بل إنه أصبح يقلب الدنيا في يوم وليله بين يديه , أعجب به من حوله بذكائه , بفطنته , بسرعته لوصوله إلى أهدافه , لقد احتار في نفسه فلم يطرق باب إلى و قد جاءته الدنيا من عدة أبواب , فقد أذعنت إليه راغمة , و جاءته منقادة , و لم يستغرب ذلك فهي إن أتته فهي بتوفيق الله و من ثم بره بوالديه , فقد كان تحت أمرهم و المتلمس لطلباتهم و الساهر على راحتهم , عيناه لا تفارقان وجهيهما , يداه لا تقفان عن تلمس حاجاتهما , لذا فقد كتب الله الدنيا أن تكون بيده , جلس ذات يوم يفكر بتجارته , فوجد أن تجارته لن تكتمل مالم يتاجر في السلع الموصلة للجنان , و مالم يزيد من رصيده في بنك الإيمان ,و مالم يطبع أثراً لأقدامه في طريق النبوة , جالت في ذهنه تلك الأفكار ذات مساء وهو جالس بين أبنائه , فتذكر الآية الكريمة قال تعالى ( الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً ) , فعرف أن زينة الدنيا و إن اكتملت فإن الباقيات الصالحات هي الأكمل , فلماذا لا يركب ذلك البحر , و يسير في ذلك الطريق , كانت الإجازة الصيفية على الأبواب , فحزم الناس أمتعتهم للسفر , فتحزم هو كذلك لسفر ومقصد آخر , أكمل و أتم .
في صالة المطار الناس يتوافدون على المطار للسفر و الترويح عن أنفسهم , و بذل أموالهم من أجل سعادتهم , هو معهم و لكن في طريق آخر و في اتجاه آخر , يريد أن يسعد نفسه بسعادة الآخرين , يريد أن يسعد نفسه بسعادة الدارين , يريد أن يرفع له منارة في وسط مجاهل أفريقيا الغارقة بالظلال و الظلام , لقد قرر أن يسافر إلى هناك , فكانت أول العقبات الحجوزات ممتلئة وغير متوفرة لتلك الدول , بحث و استنجد و طلب المساعدة من كل من يعرفهم , و لم يهدأ له بال حتى تم له الحجز , وفي صالة المطار عشرات النداءات لعشرات الخطوط الدولية المسافرة إلى كل الوجهات السياحية في العالم , الكل تبدو على محياه الابتسامة , لكن هو كانت ابتسامته أصفى و كانت سعادته أكمل , فهو على بعد خطوات من تحقيق أمل بتكميل حلم , ركب الطائرة وركب الشوق معه في تلك الرحلة , و وصل إلى أرض الدعوة , و خط لنفسه طريقاً بجانب طريق النبوة , و وضع لقدمه أثراً بجانب آثار أقدم الرسل و الصالحين و الدعاة , تجول , و بذل , و أسس و بناء , و نصح , و وجه , و أرشد , فكان معطاءً بالليل و النهار , و في كل سبيل و في كل اتجاه , و لما حانت ساعة الوداع , نظر نظرة مودع إلى هذه البقعة الطيبة على قلبه , و التي نسي في ثناياها كل هموم دنياه , و طلق في رحابها كل تجارته مع من حوله , إلا الطريق المبين للتجارة مع رب العالمين , أحس براحة عجيبة تملأ عليه قلبه , و لم يحس بها من حين , رغم أن الدنيا كانت تتقلب بين عينيه , قرر العودة و الرجعة إلى بلده , فرجع أكثر إشراقاً و أكثر حماساً .
أخذ بحث عن نور عينيه , عن حبيبيه عن أمه و أبيه و عن زوجته و أولادة , فعلم أنهم يقطنون مكة هذه الأيام لأداء العمرة , طار إليهم من هناك ,
و القلب يسعد بختام تلك الرحلة بأن تكون عمرة و نظرة إلى أهله , سافر من أفريقيا إلى تلك البقعة المباركة و لسانه يلهج بالثناء لله على تسهيله تلك المهمة و بالدعاء بأن يتقبل الله منه عمله , وصل في وقت متأخر إلى مكة , فاستقبله أباه و أمه و زوجته , يال السعادة أن تلقى الأحباب بجانب بيت الله الحرام , الوجوه مستبشرة و القلوب تكاد أن تتطاير من الفرح , العيون سعيدة و تحمل بداخلها دموع حبيسة , كانت رأفت الوالدين أكبر من الأشواق , فقالا له لعلك تستريح , و في الصبيحة يكون اللقاء , و كان التعب قد أخذ منه كل مأخذ , فصار إلى فراشه طريحاً , و من حوله أطفاله عليه يتقافزون و يلعبون , هي لحظات حتى غط في سبات عميق , و في الصبيحة ذلك اليوم , و عندما أشرقت شمس مكة من خلف جبالها , ناشرة أشعتها اللاهبة , و متسللة إلى أطراف غرفته ,
و أراد أن يخرج إلى الحرم , أحس بثقل بجسمه , و وهن في أطرافه , و تعب في رأسه , حاول و لم تجدي المحاولات , فعلم أنه عارض بفعل تغير الأجواء , زادت الحمى عليه , حتى لم يهدا لهيبها ساعة , و اشتد ألمها حتى لم ينفع معها علاج أو دواء , و صار يتقلب على أشد من الجمر , فاستخدم المضادات و الأدوية التي تخفف من ذلك , و كل ما من شأنه أن يفك عنه ذاك الضيق , و لم يعلم أن الزائر الأفريقي الشهير الملاريا قد رافقه في رحلته , و أنه أنتقل في أجزاء جسمه , فتغلغل و تمكن منه , فأصيب بصداع شديد , و من بعده بإغماء نقل على أثرها إلى المستشفى , فعملوا كل الفحوصات , فعلموا أن الملاريا قد تسللت إلى رأسه , و بدأت تأخذ من خلايا المخ , فقرروا عزله بغرفة مستقلة , داوم الأب و الأم و الزوجة ولأطفال على زيارته , و من خلف الزجاج العازل , أب ينتظر أن ترمش له عين , و بجانبه أم تتابع أن يثور له نفس , و زوج تتابع أن تنبعث منه حركه , و أطفال يتساءلون لماذا أبي هنا نائم؟ , لماذا يمنعوننا أن ندخل عليه ؟ فقد اشتقنا إليه , لماذا لا يجعلوننا نحتضنه و نلعب معه؟ , وكل يوم على هذه الحالة و لا يتقدم به الحال , يدخلون مع أول الناس في وقت الزيارة ويخرجون مع آخرهم , كانت الأيام تمر عليهم بطيئة , و حزينة , و تعيسه , من الشقة إلى المستشفى إلى الحرم ,
فيناجون الله في السحر , أب طوت الأيام أكثر عمره , و يفقد أنيسه و أنسه , فيدعو الله من تحت أستار الكعبة أن يشفي قرة عينه , و أن يعيد الصحة لأبنه , و أن يمتعه بعضده , و أم تناجي ربها بقلب حزين , تناجيه أن يمد بعمر زهرة السنين , تناجيه أن يخرجهم من هذا الكرب العظيم , وزوج تناجي و تبكي في ساحة الحرم , فتدمع عينها و تتقطع نياط قلبها و تسأل الله أن يحفظه لها و لصغارها , و في اليوم الرابع , أتوا في الموعد المحدد إلى المستشفى , يأتون و الأمل يسبقهم , و الحلم يعشمهم بأنه قد يكون خرج من غرفة العزل , و أن بإمكانهم أن يسمعوا نبض قلبه , و أن يلامسوا أطراف جسده , أو أن يجلسوا بجنبه حتى ينزل الله فرجه , يمشون في ممرات المستشفى بخطوات مثقله , يجرها كهل أثقلته السنين و أم حملتها الأيام مالا تطيق و صوتها بح من الأنين , و زوج تمسك بيديها أطفالها و تدعي ربها أن يشفي زوجها ويحفظ حبيب قلبها , وصلوا إلى غرفة العزل , نظروا فلم يجدوه , استبشروا أن يكون قد خرج من العزل , علامات الفرح ترتسم على تجاعيد وجه الأب , ظن أن الحياة قد ابتسمت في وجوههم , و أن أبنهم قد خرج من حالة الخطر , هي لحظات حتى ظهر الدكتور من بعيد , فنطقها الأب من أعماق قلبه , بشرني عن أبني , أسعدني أسعدك الله بالحياة , هل نقلتموه إلى غرف المرضى , أسئلة تتدفق كالسيل , نظر الدكتور إلى الأب , خفض رأسه , خيم صمت رهيب على المكان , نظرات الأب صامته , و لسان الدكتور قد عقد , و يقلب يديه فكأنه فقد النطق , قال الدكتور : بعدما أخذ الأب لوحده , عظم الله أجركم و غفر الله لميتمكم و جبر الله مصيبتكم , وقعت تلك الكلمات وقع الصاعقة على الأب , فتلونت الدنيا بالسواد , هي كلمات ما أكثر ما قلناها و لم نتوقع أنها اليوم تبحث عنا لتطرق أسماعنا , دارت بالكون تساؤلات , أحقاً مات , أحقاً رحل , أحقاً غاب بعدما حضر ,
أحقاً اختفى القمر خلف ستار السحاب , وسيلبس الأكفان بعد الثياب , و يوارى جسمه تحت التراب , هل بعد أن كنا ننتظر أن تشرق الدنيا علينا بوجهه النظر , نجدها تخلع قناعها لترينا وجهها الأسود , ليتها ترحم أطفالاً رضع , و زوجة أن تفجع , بل ليتها لم تمتد يدها لتنزع قلب أبن من بين أضلع أبيه و أمه , وأنفاس زوج من صدر زوجته , و سعادة أب هو كل أحلام صغاره , أحقاً مات و أسقتنا الحياة كأسها المر بعد أن أسقتنا قطرة من الأمل , هل حقاً مات , سند الأب , وقرة عين الأم , و قلب الزوجة , و حب الأطفال ,
في ظلمة القبر لا أم هناك ولا *** أب شفيـق ولا أخ يؤنسنـي
هو في قبره الصغير وفي وحشته في لحده أنيسة عمله الصالح , و أب و أم و زوجة و أطفال , في قبرهم الكبير في لحد الدنيا الضيق , في حفرة الهموم و الفقدان و الأحزان , تحثوا عليهم الدنيا من كدرها , و تدفنهم في ضيقها , و تلبسهم تعاستها , إن ضاقت النفس فلا تسعها الحياة كلها من مشرقها إلى مغربها , لقد مات , و ألبست الأيام الأب و الأم لباس الحزن و الهم , و اكتست الزوجة بثوب الحداد , و صار الأطفال بعداد الأيتام , بل لقد مات و في أحشاء الأم طفل كتب عليه اليتم منذ أن كان نطفة , , هل صدق ما حدث , هل من استقبلناه بالأمس بالأحضان نودعه اليوم بالأكفان ,
هل من كان عنا بالأمس غائب يعود اليوم غائب و بلا رجعة , هل سيختفي القمر للأبد ؟ هل ستطفئ شمعة الحياة ؟ هل ستذبل زهرة السنين ؟ و يغيب معها رحيقها , فإنا لله و إنا إليه راجعون , قضاء الله وقدره فلا راد له , نعم حقاً مات , نعم مات وسكن أول منازل الآخرة , نعم لقد مات بين أبنائه و هم في بداية رحلتهم للعمرة , لقد فقدوه و لم يأنسوا به من بعد رحلته إلى أفريقيا , لم تكتمل فرحتهم بعودته حتى غاب غيبة كلية في هذه الحياة الدنيا ,
نؤمل آمالاً و نرجوا نتاجها *** وباب الردى مما نؤمل أقرب
زوج مصابة و أطفال يبكون , منظر يبعث في النفس الأحزان , حقيبته التي لم تفتح , ثيابه التي لم تلبس , عطره الذي لم ينفث , بقايا من أغراضه , آهات و حسرات و مصاب جلل , تركت في نفوس محبيه جرح عميق لا تمحوه السنين , ولكن له من الأعمال ما تسلي القلب الحزين , فهنيئاً لرجل ختم حياته بالصالحات , ختم حياته بطريق النبوة , ختم حياته بجانب الحرم , ختم حياته و عين أبيه و أمه عليه تدمع و قلبهما له يدعوان من بره بهما , فأسأل الله أن يتغمده برحمته , فقد عرفته و له ابتسامه , فاللهم أبعثه ملبياً و احشره مع زمرة النبيين و الصديقين و الشهداء و أجمعنا به يارب العالمين في جناتك جنات النعيم , و لعلكم لا تعلمون أن زوجة هذا الشاب هي صديقة العمر لأختي , فهذا الذي يجعلها تخشى من البعوض بشكل يكدر عليها سفرتها , و ينغص عليها أوقاتها , و استودعكم الله إلى لقاء قادم , و أتمنى أن لا تنسوا ذلك الشاب من دعواتكم , و أعتذر أن أطلت عليكم , أو خرجت عن سياق الموضوع , و لكن حسبي أن طريق الدعوة واحد , و أن قلوبهم تحمل ذات الهم و إن اختلفت أجسامهم , فاللهم أجعلنا ممن يحمل هم الدعوة إليك و ممن توفقه و تستخدمه في طاعتك .
و في ختام هذه الورقة
أسأل الله لنا و لكم حسن الختام ,
كان عثمان بن عفان إذا وقف على القبر بكى ، حتى يُبل لحيته ، فقيل له : تذكر الجنة والنار فلا تبكي وتبكي من هذا ؟ فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { القبر أول منازل الآخرة فإن نجا منه فما بعده أيسر منه وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه } قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { ما رأيت منظراً قط إلا والقبر أفظع منه }
وقال الشاعر
هو الموت ما منه ملاذ ومهرب *** متى حٌُُط ذا عن نعشه ذاك يركب
و للحديث بقية
نسيم نجد
www.naseemnajd.com
روابط بقية الحلقات….
قصة مؤثرة ولقد اعجبتني كثيراً, كاتبها يمتلك مهارة لغوية وكتابية متألقة, اسأل الله ان يحسن خاتمتنا جميعا يارب العالمين .