سعودية وسط الأدغال الأفريقية ( 6 )

مركز المهتديات الجدد….همم تلامس القمم

في الصبح الأول….استيقظن البُنيات…فبدأنا الصغيرات يجملن أنفسهن بأدواتهن البسيطة….و يتهامسن بينهن …أن اليوم هو أول أيام طريق الدعوة….ركبوا في سيارتهم ….و اخترقوا طرقات المدينة….ومن خلال شوارعها الضيقة…و وسط أركام من السيارات المتزاحمة….ينبعث من خلالها ضجيج المنبهات….و يتطاير من عوادمها دخان كثيف يحجب الرؤية لمسافة قصيرة ..فتخمده بعض القطرات الساقطة من السماء…فكأنما السماء تضربمثلاً للدعاة أن القطرات و النسمات كفيلة بإذهاب كل ماعلق بين السماء و الأرض …فهل يا ترى تزيل قطرات الدعاة ما علق في قلوب من البدع ؟!….أو تجلي ما ترسب بها بفعل السنين ؟! …… أو تنفض عنها غبار التغريب و التغيير؟!…..كل تلك التساؤلات تدور في ذهن أختي….وكل الدعاة الذين يبدأون أيامهم الأولى هناك..

كل البدايات صعبة و لكن أي بداية تلبس ثوب الدعوة فهي ميسرة و مستضيأة بنور الهداية…هم بطريقهم نحو مركز المهتديات الجدد….توجهت حيث اللقاء الأول….وقفت السيارة أمام مبنى بسيط و متواضع….يقف على أعتابه فتيات صغيرات…نزلت أختي و بنياتها….وضعت قدميها على أول سلم المبنى….هي عدة درجات وكل درجة هي بعمر سنوات…خطوات أولى في حياة جديدة…من خلفها بنياتها وقد لبسن العباءة….و تسفعنا بها….حتى حافظنا على أطرافهن بالجوارب و الخمار….أما الصغيرة فقد كانت صغيرة على لبس العباءة….و لكن هي بذرة لمشروع داعية ناشئة…فلابد أن تكون بداياتها قوية….عباءتها على رأسها….و خمارها يلف وجهها البريء …فتطأ عباءتها بأقدامها تارة…و يسقط خمارها من على وجهها تارة أخرى…فيضيء وجه كالقمر في منتصف الشهر….يشع نوراً في وسط ليل دامس…و يحمل ابتسامة هي كالسحر…الأم تتقدم…فيستقبلنها بعض الإداريات و يسلمنا عليها ….و يقدمنها إلى زاوية عليها كرسي متهالك…. و طاولة بالية هو مقر الإدارة….يقدمن الكرسي بعدما يمسحنه مما علق به من الغبار…و يقدمن الكراسي للصغيرات…فقد رفضنا الإداريات إلا أن يجلسن الصغيرات  على الكراسي…الإداريات يتناظرن بينهم لهؤلاء القادمين الجدد….يرحبون بهم بشكل يفوق التصور….فنظرهم هؤلاء المنقذون لهم من براثن التنصير….هؤلاء هم حملة شعلة الدعوة….أحفاد الصحابة….بدأت مديرة احد المعاهد في نيروبي وهي تسرد قصتها وعن تقصيرها في الدعوة و تقول : أقوم لصلاة الليل منذ الساعة الثانية ليلاً حتى السادسة …حيث يبدأ تدريس الطالبات في المعهد حتى الساعة الواحدة …..ثم بعدها أقوم بتدريس طلاب المدارس حتى الساعة الرابعة….. وبعدها إلى المغرب أدرس الأمهات …..و بعد المغرب حتى العشاء مخصص لتدريس القريبات وهكذا هي حياتي ….و ذلك غير مسؤوليات البيت و أطفالها السبعة…يا الله ….إذا كانت تعتبر نفسها مقصرة , فماذا نعتبر أنفسنا , إذا كانت تعمل كل هذه الأعمال و هي تشغلها الدنيا و تزحمها بأشغالها و قلتها و فقرها , فماذا نقول نحن يامن أعطان الله الوقت و المال و القوة و الغنى …و تقول إن الذي يقلقنا هو ناقوس الخطر الذي يدق كل حين …فحينما يدوي أنين المجاعات في أفريقيا…. تدوي في العالم النصراني أجراس الكنائس فتعلن أن حملات التنصير قد بدأت ….تحت غطاء الإغاثة….و إنقاذ الضعفاء…..فيستغلون هذا الظرف لمد يد المعونة….و مد الانجيل باليد الأخرى….فمن ينحني للجوع يجب أن ينحني للصليب…..و تحت هذه الظروف القاسية و المجاعات المهلكة في أفريقيا ….. يضطر الكثير من البسطاء الذين لا يجدون قوت يومهم….بل لا يجدون وجبة واحدة تقيم جوعتهم… فيجبرهم الجوع و عدم مبالاة المسلمين بهم للتخلي عن دينهم ……و ذلك عندما يرون أن يد النصارى أكثر عطفاً عليهم….. و أكثر تلمساً لحاجاتهم….. بينما أخوتهم في حياتهم غافلون و في دنياهم يتقلبون….فتجبرهم مناظر أبنائهم و هم بين الحياة و الموت…. أن يطلبوا الحياة على حساب دينهم و هم كارهون……

و لعلنا نكون لو بعض عطف هذا المصور الذي التقط هذه الصورة لمجاعة سابقة في السودان….و بعدما ألتقطها بنصف ساعة مات الطفل و انقض عليه النسر ….غارساً منقاره الجارح في جسم طفل……في جسم أمة متخلية عن أبنها ….في كبد الإنسانية كلها……و لقد نال عليها المصور جائزة عالمية…..فبعد أسبوع وجد المصور…..منتحر…. من هول الصدمة….ومن مهولة ذاك الحدث فلم يطق صبراً…..لقد فت كبده المنظر…..وقلوب بعضنا لم تتحرك…..لقد أهلكه الهم….و هموم بعضنا لم تتغير……فاختار الموت على أن يتجرع كأس ذلك الموقف الرهيب كل يوم…..إنهم في كل يوم يفتنون ….و يتمسكون حتى يبقى بينهم و بين الموت ساعة …. و بينهم و بين القبر خطوة…..و بينهم و بين أن يفقدوا أبنائهم أو حياتهم لحظة……و بينهم وبين افتراس الموت أنفاس……فتدمع عيونهم دمعة وداع لدين أبائهم و أجدادهم و ينحنون راغمين تحت الصليب المزعوم……فتسقط دمعة على أرض المجاعة و تبتسم راية الصليب ابتسامة……. أن وصلوا لمرادهم…. نعم لقد هربوا من فريسة الموت بعدما تخلى عنهم أبناء جلدتهم فوقعوا في فريسة الصليب ….فتضيق الصدور أن يد الصليب قد مدت يدها و أن أبناء النصارى قد تكفلوا بكامل قوتهم …..بل رحبوا بهم أن يضموهم في رحاب كنائسهم….إنهم يتركون دينهم تحت ضغوطات الموت القادم إليهم بقوة…..فأين نحن من إخواننا قبل أن نفقدهم من بين أيدينا….و أين نحن من سؤال ربنا ماذا عملتم لإخوانكم؟!…بل أين نحن عنهم عندما نشاهد قوافل الخير التي تسير كل حين بأيدي المخلصين و لا نمدهم بزادهم….والذي هو زادنا في طريقنا إلى الجنة….أين نحن من أخوة بذلوا أنفسهم في طريق الدعوة فكانوا مشاعل نور و مصابيح هداية؟!….و معالم يستدل بها لنشر الخير بين أخوتنا….فعندما ركنا عملوا…و عندما لهينا …. انشغلوا…و تقلبنا في سعادتنا و تقلبوا في سعادة أخوتهم….كم رسموا من طريق خير عندما نحن توقفنا ؟! ….كم طرقوا من باب خير عندما نحن تخلينا ؟!….كم أوصدوا من أبواب الخطر عندما نحن نمنا و أمنا في أوطاننا ؟! ….كم تركوا من أموال و بنين بينما نحن جلسنا نتقلب نحن بنعيمهما ؟!….فلله درهم و على الله حسابهم ….لقد اختاروا الآخرة على الحياة الدنيا….اختاروا الباقية على الفانية….اختاروا طريق النبوة على طريق الدنيا …فكانت نتائج عملهم تفوق التصور…..و ما مراكز المهتدين و المهتديات ….و حلق تعليم الدين …. المساجد المنتشرة في كل مكان…..و الدعاة الذين يتجولون في أطراف الأرض ….و القوافل الدعوية والإغاثية ….إلا بفضل الله ثم بفضل جهودهم…..فهي ثمرة من ثمار بذرهم…..فانظروا إلى احد المهتديات الجدد…..من دار المهتديات…..وقد جاءت تمشي إلى أختي على استحياء…فقالت : أختاه أريد أن أسألك سؤال….فقالت أختي تفضلي …..أنا قد منَ الله علي بالهداية …و أنعم علي أن تلقفتني يد الخير إلى هذا الطريق…و شربت من نهر هذا الدين الجاري….و نهلت من نبعه الصافي…ولكن بالقلب رهبة و في الحلق غصة و في الصدر خوف…و في نفسي يسكن ألف سؤال…و تظهر مخاوفي في ليلي و نهاري…فقالت أختي و من ماذا تخافين أو توجلين ؟…فقالت : أخاف أن أكون مقصرة بحق رب العالمين….فبعد أن اختارني لحوزة هذا الدين…. أخاف أن أكون لم أعبده حق عبادته….ثم اتبعت فقالت : يال تفريطي فأنا لا أصوم من الدهر إلا الاثنين و الخميس….و لا أقوم من الليل إلا من الساعة الثانية حتى الساعة السادسة ….و اختم القرآن بالأسبوع مرة واحدة….فأنا للأسف مقصرة و عن ربي معرضة …فكيف بي أن وقفت بين يدي ربي …..و سألني عن بقية أيامي أين صيامها….. و عن بقية الليالي أين قيامها….. و عن بقية أوقاتي أين حظها من القرآن….فتقول : أختي لم أجد لها جواباً أجيبها به….و حار فكري و عقلي….كيف أن هذه المهتدية الجديدة و التي لم يلامس نور الإيمان قلبها إلا منذ أشهر…..تكون بهذه الهمة….و هذا الطلب الرفيع….و أين نحن يامن ولدنا و نشأنا بهذا الدين …..فكم منا من غافل عن أوقاته ؟! …و لا يحاسب نفسه رغم تقصيرها…..و رغم أن البعض منا لم يصل لمستوى هذه المهتدية الجديدة….فيا الله كم نزهد بأعمالنا عندما نشاهد ممن لم يلحقوا بالركب إلا متأخرين ثم تراهم يتقدمون علينا…. و كم نتعجب كيف أن هذا الدين يفجر بالنفس الهمم و يسوقها إلى القمم …و كيف أن خشية الله إذا حلت في الصدور لم تقنع النفس إلا أن تصل إلى أعلى المراتب….تقول أختي احترت و لم أجد لها جواباَ …وقلت لها أنتي و بإذن الله على خير…فاستمري و استزيدي و أخلص لله بالعمل ….فبارك الله فيها و جعلها بذرة مباركة في تلك القارة…و أنبتها نباتاً حسناً ….و زادها من حب ربها …..و رفعها حب ربها في كل نفس…..و للحديث بقية مع مشاهد المهتديات الجدد

نسيم نجد
www.naseemnajd.com

روابط بقية الحلقات….

الحلقة الأولى

الحلقة الثانية

الحلقة الثالثة

الحلقة الرابعة

 الحلقة الخامسة

الحلقة السادسة

الحلقة السابعة

الحلقة الثامنة

الحلقة الأخيرة

عن سليمان الصقير

محب للسفر والترحال : مؤلفاتي : 1- 800 خطوة لرحلة سياحية ممتعة 2- 150 طريقة ليصل برك بأمك 3- أمي أنتِ جنتي 4- بنيتي لكِ حبي 5- مذكرات مدمن إنترنت

شاهد أيضاً

سعودية وسط الأدغال الأفريقية ( الأخيرة )

اليوم الأخير   هذا اليوم هو يوم فسحة و استجمام و نظرة على بعض جوانب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.