سعودية وسط الأدغال الأفريقية ( 2 )

بداية الرحلة
نظرة أخيرة على بيتها المنيف , جالت ببصرها إلى أطرافه , فالسكون يحل بين جدرانه ..هدوء يحرك التأمل في وقت قاتل…فهل هو باعث الوداع الذي يحرك الأحاسيس حتى في الأشياء الجامدة فيصبغها بصبغة حزينة , فتتراءى لنا و كأنها تريد أن تبوح بشيء ما , أم أنه الصمت قد دخل بجلبابه الناعم و هو  يبحث في هذا العالم عن مكان ليحط رحاله فيه , فيجد زوايا بيوت المسافرين ملاذاً آمناً لمنامه , نظرت إلى أعماق بيتها و كأنها تريد أن ترسل السلام و الوداع لكل شيء , طأطأت برأسها فأرادت تنهي هذا الوادع الصامت …

لمست بيدها مفتاح الأنوار , فأحدث صوت إطفاء الكهرباء صوت مدوياً بين جدران الصمت , تتابعت المصابيح المغلقة , و لكن لابد أن يكون آخر الأنوار هو نهاية لمشوار و بداية لمشوار جديد من رحلة الحياة , حياة القلوب .

نعم لقد أطفأت آخر أنوار بيتها , و اشتعل نور الإيمان في قلبها , و أغلقت باب بيتها ففتحت أبواب النور في وجهها , و جلست في كرسيها المخصص في الطائرة , فقام هم الدعوة في نفسها .


هي و أطفالها في كراسيهم المخصصة على الطائرة المتجهة إلى نيروبي عبر توقف بسيط في مدينة أبوظبي , في رحلة كانت صامته , مبتدأها أول الليل , و منتهاها مقتبل النهار , و أثناء كل هذه الفترة الزمنية من التحليق تفكر بالمسافة التي تفصلها عن أرضٍ طالما تمنتها , أرض لم ترها و أحبتها , تسمع من بعيد نداءات أخواتها في تلك الأراضي , و أصواتهم تتمثل لها عبر حروف الدعاة الذين يمطرون الدوريات و المجلات و الأشرطة من هناك , يحكون قصصاً أغرب من الخيال عن احتياج المسلمين هناك لأيدي أخوتهم في بقاع العالم الإسلامي , و إن كان لصوت الدعاة أثر , فإن صوت زوجها الذي أمضى أكثر من ثلاثة عشر سنة متنقلاً وسط أدغال أفريقيا كان له أثراً أكبر , فكم تحدث لها و بحب عن تلك الرحلات , بل و كيف يقضون الليالي الطوال بين الغابات , و كيف أن زيارة واحدة لقرية توقد نور الهدى بين بيوتها , و أن رحلة واحدة بأيام معدودة تشعل نور الإسلام في فوانيس تلك البلدة , فتسلم القرية في طرفة عين , بل كيف أن التنافس و التسابق بين الدعاة للوصول إلى أطراف القارة و البحث بين جبالها و أدغالها و بين أنهارها و في أطراف مفازتها للظفر بالأجر , و كيف أن الفرحة و مشاعر الدعاة عند دخول أخ جديد إلى رحاب هذا الدين تنقض ما بالجسم من تعب و نصب تكبدته خلال تلك الرحلة , هو شعور غريب و عالم آخر لا يمكن أن أتصوره أنا أو يتصوره إنسان لم تلامس قدميه أرض تلك القارة .
يقطع تفكيرها صوت منادي الطائرة و هو يرحب بالمسافرين على متن رحلتهم , و صغيراتُها يمسكن ببعض الكتيبات و القصص و بعض اللعب , و هم في شغل لاهون , فتارة يتناقشون , وتارة أخرى يلعبون , و يمر عليهم ما يمر على الأطفال فيتشاجرون , و بعد كل حين يسألون ….

 هل نحن ذاهبون إلى أبي ؟

فتجيب أمهم : بنعم ..

 و لكن الأسئلة لا تنتهي , فيسألون : هل أبي ذهب إلى هناك للدعوة ؟

فتجيب الأم بجواب مقتضب كمن يريد أن يوقف سيل الأسئلة , نعم هو هناك للدعوة ..

و لكن الأطفال لا يملون الأسئلة فتقول أحداهن : هل نحن سوف نكون معه في الدعوة , فتجيب نعم .

فتسأل أصغرهم , أمي , أنا أريد أن أكون معكم بالدعوة , نعم و أنتِ كذلك ياحبيبتي ….

أسئلة بريئة تبحث عن أجوبة شافية لما يدور في صدورهم منذ أسابيع عدة . بعد مدة تهدأ عاصفة الأسئلة , و تمضي ساعات السفر ببطء فتطول عليها الرحلة , و يتسلل الملل إلى أطفالها , و بعدما انتهت الوجبات الخاصة بالركاب , أغلقت الأنوار , و هدأت الأصوات داخل الطائرة , فلا يسمع إلا صوت بعض الركاب يتهامسون , و شعاع الرائي يبعث ألوانه المختلفة عبر الظلام الطائرة , فتتقلب كبينة الطائرة بألوان الصور المبثوثة عبر الفلم الطويل الذي تبثه شركة الطيران عن أفريقيا بصوت مذيع غليظ , , و بدأ الجو الداخلي يتغير بالتدريج إلى جو إفريقي , فمع الأصوات و المناظر المبثوثة على شاشات الطائرة , و مع رائحة الأطعمة الأفريقية المقدمة من النادلات , و همس الأفارقة و الذي يوازي أصواتنا جهراً , و مع هذا الظلام الذي يضعك بمواجهة السواد الأفريقي الحالك , كل تلك الظروف تعطيك إحساساً بأنك قد صبغت بصبغة أفريقية جديدة غريبة .
 أختي و بجانبها أخي يعيشون هذا التغير السريع , و لا يتذكرون عالمهم الأول إلا عندما يقطع أخي نظراته من المجلة التي بين يديه , فيتذكر مع أختي بعض ذكريات الحياة , و لا تطول بهم الذكريات , فإنما هي لحظات ثم يعود بهم الجو العام للصمت و الهدوء مرة أخرى , ومع هذا الهدوء و السكون أستسلم الأطفال للنوم , أما هي فبقيت لأحلامها و آمالها , تقلب صفحات حياتها , و كيف أن الأماني في طرق الحياة قريبة , و أن الأحلام قد بدت وشيكة , يعيدها من تفكيرها بعض المطبات الهوائية التي تجعلها تنظر إلى بنياتها , ثم تغرق من جديد بحلمها القديم .
تابعونا , في الحلقة القادمة , أول خطواتهم في القارة السوداء
أخوكم : نسيم نجد
www.naseemnajd.com

روابط بقية الحلقات….

الحلقة الأولى

الحلقة الثانية

الحلقة الثالثة

الحلقة الرابعة

 الحلقة الخامسة

الحلقة السادسة

الحلقة السابعة

الحلقة الثامنة

الحلقة الأخيرة

عن سليمان الصقير

محب للسفر والترحال : مؤلفاتي : 1- 800 خطوة لرحلة سياحية ممتعة 2- 150 طريقة ليصل برك بأمك 3- أمي أنتِ جنتي 4- بنيتي لكِ حبي 5- مذكرات مدمن إنترنت

شاهد أيضاً

سعودية وسط الأدغال الأفريقية ( الأخيرة )

اليوم الأخير   هذا اليوم هو يوم فسحة و استجمام و نظرة على بعض جوانب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.